لقد آلت على نفسها «سلطة إيران» في لبنان تعطيل الدّولة للسيطرة عليها. ولقد مارست لذلك عبر وسطائها اللبنانيّين مبدأ الديمقراطيّة التعطيلية التي تتجلّى بأبهى حللها في تعطيل الحياة التشريعيّة عند كلّ استحقاق. وهذا ما يحصل مثلاً في ملفّ انتخابات رئاسة الجمهوريّة؛ وعند تشكيل الحكومات. وإن لم تنجح بالتعطيل تلجأ عبر وسيطها أي «منظمة حزب الله» إلى ممارسة الفوضى المسلّحة في الشارع، وعلى اللبنانيّين أنفسهم، وفي مواقع مختلفة لتستطيع فرض رأيها السياسي.
ولكن عندما أفقِدَت استخدام قدراتها المسلّحة في الشارع، نتيجة التزامات قطعتها للمجتمع الدّولي وكي لا تتحمّل مسؤوليّة أي انهيار أمني قد يقع لأنّ الشارع اليوم متفلّت نتيجة الأزمة الإقتصاديّة، استعادت ما تبقّى لها من قدرات في التعطيل، وهي تمارسه اليوم في ملفّ السلطة القضائيّة. وإن عاد القضاة عن اعتكافهم فستحرّك مطالب أخرى للعاملين في القطاع القضائي لتعود فتعطّله من جديد، ولكن بطريقة جديدة.
ولتعطيل القضاء مفاعيل سياسيّة أيضاً تتجلّى في استمرار النّهج الحاكم نفسه. ونتيجة لهذه العمليّة التعطيليّة تتعطّل المحاسبة في المؤسّسات العامّة كلّها؛ وبالتّالي إن ثار اللبنانيّون كلّهم وأقفلوا الشوارع كما حدث في 17 تشرين تتعطّل المحاسبة لأنّ مَن سيحاسِب هو بدورِهِ مُعطَّلٌ. وعندما تغيب المحاسبة يتفلّت الفاسد والمرتكب لأيّ تجاوز من القيود كلّها ويتحرّر فيصبح بإمكانه ممارسة فساده وتفلّته، في أيّ مجال كان، بكلّ حرّيّة. لأنّه مطمئن بأنه لن يُحاسَب.
حتّى إن وُجِدَ بعض القضاة النّزيهين الذين يرفضون الخضوع لهذه المنظومة الفاسدة، يتمّ تعطيل عملهم بالتّحايل على القانون القضائي نفسه؛ كما هي الحال مع القاضي طارق البيطار الذي تمّ تعطيل تحقيقه في ملفّ تفجير مرفأ بيروت ليستطيع هذا المعطِّل نفسه الاستمرار بما يقوم به، ولو بطرق مغايرة.
فالقضاء يُعتَبَرُ في أيّ دولة في العالم الضابط الأوحد لأداء النّاس كلّهم، ولا سيّما مَن يتعاطون بالشأن العام منهم. وبتعطيله يستمرّ هذا النّهج في حكمه. وبالتّالي تسقط المؤسّسات كلّها وتصبح تحت رحمة هذا الفريق السياسي الحاكم والمتحكّم بالبلاد وبعض العباد. والأخطر عندما يستعمل هذا القضاء لتركيب الملفّات الأمنيّة كما حصل في المرحلة التي امتدّت بين عامي 1994 و2005.
لكنّ التّاريخ لا يرجع إلى الوراء. ولا بدّ من ثورة قضائيّة تنقّي نفسها بنفسها. وبالتّالي تستعيد السلطة القضائيّة ألقها القانوني، وتسير عجلة المحاسبة. إن لم ينجح القضاء اللبناني بهذه الثورة فلن يتمكّن أحد من محاسبة أحد. يبقى الأمل عندها في الناس أنفسهم للمحاسبة في صندوقة الاقتراع، لكنّ هذه المسألة وحدها لن تكون كافية ومسارها طويل الأمد وبعيد المنال لا سيّما في بلد كلبنان تعصف به الانقسامات والولاءات من كلّ حدب وصوب.
تعطيل القضاء إذاً هو وسيلة من وسائل استمرار هذا النّهج الحاكم بالذات. وهو ما سيؤدّي، إن استمرّ، إلى تفكيك مؤسّسات الدّولة وتفريغها من قدراتها القانونيّة لتصبح مرتعاً للزبائنيّة والاستزلام والرّشاوى أكثر فأكثر. المواجهة المطلوبة اليوم في هذا المجال بالذات من خلال توفير أيّ دعم سياسي يحتاجه أيّ قاضٍ شريف ونزيه يقرّر الاستمرار في القيام بعمله بحسب ما تقتضيه الأصول القانونيّة لذلك، غير آبهٍ لأيّ تدخّل في عمله من أيّ جهة أتاه.
وعلى السياسيّين اليوم أن يعملوا بأنفسهم بقدر ما يسمح لهم الدّستور اللبناني لتحرير القضاء عبر إقرار كلّ التشكيلات القضائيّة ليستقيم عمل النيابات العامّة والدوائر المولجة بالمحاسبة. ولا يكون الدّعم فقط بإقرار الحاجات الماديّة فحسب، بل يجب توفير الدّعم والغطاء السياسيَّيْن ليستطيع أيّ قاضٍ أن يمارس عمله بكلّ حرّيّة وتجرّد. الثورة البيضاء المطلوبة اليوم يجب أن تنطلق من السلك القضائي لإنقاذ ما تبقّى. على أن تكشف الحقائق التي يطالب بها اللبنانيّون كلّهم، وليس أوّلها حقيقة 4 آب، بل حقيقة كلّ من حاول اغتيال أو اغتال نوّاباً ووزراء ورؤساء ومرجعيّات روحيّة وصحافيّين ونشطاء سياسيّين، وفجّر جوامع وكنائس، وخطف رجال دين أو أخفاهم ليبقى ويستمرّ لبنان. ولن نبحث عمّن يحاول القضاء على القضاء في لبنان، لأنّنا نعرف مَن يريد القضاء على لبنان بذاته.