IMLebanon

في الناموس اللبنـاني قواعد للفساد

رمى الوزير وائل أبو فاعور حجراً ثقيلاً في المستنقع اللبناني الآسن، فاتسعت الدائرة التي أحدثها في المياه الموحلة حتى وصلت إلى الدوائر العقارية.

كان اللبنانيون يجهلون مدى الإهمال في المطاعم والمزارع والمخازن والمسالخ ووسائل النقل، الإهمال الذي يتحوّل في أجسادهم أوبئة وسموماً، حتى كشف الوزير أبو فاعور ما كانوا يجهلون، وإن كانوا يرتابون بوجوده في الأصل.

ولكن، مَن كان يجهل أن بعض الدوائر العقارية، وليس كلها، هي أكبر بؤرة للرشوة والفساد في الجمهورية اللبنانية. هناك، يتمّ التواطؤ بين الموظفين وأصحاب المعاملات العقارية على حساب الخزينة، ناهيك عن مجال كبير للنهب، أشار إليه وزير المالية، وهو تسجيل أملاك الدولة العقارية على اسم بعض الأفراد.

بعد ارتفاع أسعار العقارات في السنوات الخمس الأخيرة باتت رشوة موظف، أو شلة من الموظفين، بخمسة أو عشرة آلاف دولار لتسجيل شقة واحدة متوسطة الثمن مبلغاً معقولاً وعادياً في بيروت والمناطق.

القول بأن هذه الممارسات المستمرّة منذ عقود، وسواها، تحميها المظلة السياسية وحدها فهذا منتهى التبسيط. في لبنان دستور غير مكتوب، أقوى وأفعل من الدستور المكتوب. إنه ناموس لبنان الحقيقي، وفيه، من ضمن ما فيه، ثلاث قواعد تشرّع الفساد وتحميه.

÷ القاعدة الأولى هي أن التزام الأخلاق والمعايير يحدّ من النجاح الفردي في الأعمال، فلتسقط الضوابط لكي يتقدّم الاقتصاد. من هنا كان جواب بعض ممثلي القطاعات الاقتصادية على الوزير أبو فاعور، أن فرض المعايير يضرّ المؤسّسات ويهدّد قدرتها على الاستمرار.

يروي جوزف أوغورليان في كتابه اليتيم عن النقد اللبناني، أنه عندما كان يحضّر مسودة قانون النقد والتسليف بتكليف من الرئيس فؤاد شهاب زاره أحد كبار المصرفيين اللبنانيين، وقال له إن وضع قانون ينظم أصول ممارسة المهنة المصرفية يعرّض المصارف الوطنية لخطر الإفلاس!!! فالمصارف اللبنانية، برأيه، تستطيع منافسة المصارف الأجنبية العاملة في لبنان لأنها لا تتقيّد بضوابط المهنة المصرفية، وإذا أجبرت على اتباع القواعد والأصول تتفوّق عليها المصارف الأجنبية وتخرجها من السوق. وقد أثبتت تطوّرات السنوات والعقود اللاحقة أن هذا المصرفي، ومَن وراءه، كانوا على خطأ.

÷ القاعدة الثانية أن «العفة» ونظافة الكف ليستا من القيم التي يتمسك بها مجتمعنا السياسي. إن مال الدولة مباح لأصحاب النفوذ، على الأخصّ أصحاب النفوذ السياسي، ومَن يحظون بحمايتهم. والدليل على ذلك أن الناخبين، على امتداد تاريخ لبنان السياسي، لم يحاسبوا أحداً بسبب خروجه عن القواعد الأخلاقية في تعاطيه بالمال العام. يمكن للفاسد أن ينكشف أمام الرأي العام ويستمرّ انتخابه دورات متوالية.

بعكس ذلك، فإن التلاعب بأموال الطوائف، أي بالأوقاف، حرام وجريمة لا تغتفر. وهذه القاعدة تعكس هشاشة الرابطة الوطنية في لبنان، حيث يعتبر معظم اللبنانيين، ضمناً، أن طوائفهم هي أوطانهم الحقيقية، ولبنان هو أرض أخرى لا مانع من سبيها واختلاس دولتها.

÷ القاعدة الثالثة هي الأكثر غرابة في الناموس اللبناني كله، ومفادها أن المجتمع يتقبّل كلفة الفساد مهما بلغت، ويكتفي بالتذمّر منها فقط. فللفساد كلفة باهظة تتحمّلها الدولة والاقتصاد، والمجتمع ككل. إنه يحمّل الخزينة أموالاً طائلة ويعيق النموّ الاقتصادي، فيقلص القدرة على خلق الوظائف والحدّ من الفقر. قدّر البنك الدولي حجم الرشى في العالم بألف مليار دولار كل سنة، تتركز خصوصاً في البلدان النامية، مما يجعلها عنصراً مؤثراً على اقتصاديات هذه الدول والحالة الاجتماعية لمواطنيها. مع ذلك، فاللبنانيون راضون بدفع كلفة الفساد وتحمّل نتائجها. فهم يتذمرون، ولكنهم يوم الحساب – أي الانتخاب – يتجاهلون تماماً الخلفية الأخلاقية للمرشح ويغلبون عليها معايير أخرى، كالمال والنفوذ والعصبية الطائفية.

لذلك، وما دامت هذه القواعد هي من صلب الثقافة الاجتماعية اللبنانية، من الصعب أن تنجح الحملات الحكومية المخلصة في تحويل المسار، وفرض الالتزام الدائم بالمعايير الأخلاقية في أداء القطاعين العام والخاص.