ليس حدثاً عادياً أن تُضيء لجنة نوبل للسلام شمعة مُنيرة في ظلام الربيع العربي، وتُقرّر منح جائزة العام الحالي للمنظمات المهنية والمدنية الأربع التي رعت الحوار الوطني في تونس، وأنقذت مهد الربيع العربي من حرب أهلية ضروس، على شاكلة ما يجري عند الجارة الأقرب ليبيا، أو الشقيقة سوريا، أو الشقيقة الأبعد اليمن!
كانت تونس في صيف عام 2013، تقف على شفير حرب مدمِّرة، بين الإسلاميين بزعامة حزب النهضة، وجماعات المجتمع المدني المعارضين لدمج الدين بالدولة، أو اعتماد أي دستور ذات صبغة حزبية ضيّقة، مُغلّفة بشعارات وأفكار أُلصقت بالدين زوراً وبهتاناً.
ثورة «الياسمين» التي أطاحت بأعتى نظام ديكتاتوري وبوليسي، وألهبت مشاعر الملايين في العالم العربي، وألهمت شعوباً عربية عديدة في اقتحام أسوار الأنظمة الديكتاتورية، كانت مهدّدة بالإجهاض والإنحراف عن أهدافها الرئيسية، من خلال تسلّط التيارات الدينية المتشدّدة على بعض مفاصل السلطة، وفوز حزب «النهضة» الإسلامي بالأغلبية الساحقة في أول إنتخابات نيابية تجري في تونس بعد سقوط نظام بن علي.
كانت الإنقسامات الحزبية والسياسية على أشدّها، ولجأت بعض الجماعات المتطرّفة إلى العنف والإغتيال السياسي لترهيب خصومها، فيما راحت المظاهرات الشعبية تتحوّل إلى بؤر للفوضى والتعدّي على الأملاك العامة والخاصة في الشارع، وأصبح الوضع في البلد مهدّداً بالخروج عن السيطرة في أية لحظة!
في خضمّ تلك الأوضاع الحرجة، وتفاقم الأخطار المُحدقة بالسلم الأهلي، وبمصير الثورة، وانهيار أحلام التغيير، برز الرباعي التونسي من صفوف الحشود الشعبية التي خرجت إلى الشارع مطالبة بحماية الثورة، وتحقيق أهدافها بإقامة نظام الحرية والديمقراطية، على خلفية التعددية السياسية والحزبية، في بلد بلغ فيه المجتمع المدني مستوى متقدّماً من التعقّل والنضوج.
وكان أن خاض رؤساء الرباعي الذي يضم: الإتحاد العام التونسي للشغل (أي إتحاد العمال)، والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة (أي الهيئات الإقتصادية)، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين (نقابة المحامين)، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (مثيلاتها موجودة في لبنان)، تجربة مريرة، لتنظيم حوار وطني، طويل وصعب وبالغ التعقيد، بين الإسلاميين ومعارضيهم، وحملتهم على تجنيب تونس حرباً داخلية لا هوادة فيها، وعلى التوافق على أسس عملية سياسية شاملة، تُتيح تمرير المرحلة الإنتقالية نحو النظام الديمقراطي المتكامل، وتُبعد الدولة ومؤسساتها الدستورية والقضائية والإدارية عن الشلل والإنهيار!
وبالفعل، نجحت مساعي الرباعي المدني التونسي «في إطلاق عملية سياسية بديلة وسلمية في وقت كانت فيه البلاد على شفير حرب أهلية»، على حدّ وصف المتحدّثة باسم لجنة نوبل للسلام، التي اعتبرت بأن تلك العملية «أتاحت لتونس الغارقة في الفوضى، إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان بدون شروط تتّصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني».
* * *
الواقع أنه بقدر ما كنّا سعداء بنجاح الإخوة في تونس في إنقاذ بلدهم من كارثة وطنية كُبرى، وحصولهم على هذا التقدير النبيل من أهمّ مؤسسة دولية تُعنى بشؤون السلام والإنسانية، بقد ما كانت مشاعر الحزن والخجل تفترس كراماتنا وأحلامنا، ونحن نعيش في خضمّ هذه المرحلة الصعبة في لبنان، حيث الإنقسامات والصراعات، وحروب المصالح والصفقات تهدّد البلاد والعباد بالإنهيار المريع، دون أن يرفّ لأطراف الطبقة السياسية جفن قلقاً على البلد، أو حتى حرصاً على جماعاتهم وأنصارهم!
الرهان الحماسي على انطلاقة الحراك المدني، بدأ يتحوّل إلى قلق متزايد، من مغبّة الإنزلاق إلى الفوضى والعنف العبثي، على نحو ما حصل في تظاهرة الخميس الأسود.
التفاؤل بعودة طاولة الحوار سُرعان ما تبخّر على نيران المواقف الملتهبة التي أطلقها العماد عون شاهراً سيف التعطيل والشلل للدولة ومؤسساتها الدستورية، حتى ولو انهار السقف على رؤوس الجميع، وذلك على الطريقة الشمشومية المعروفة: عليّ وعلى أعدائي يا رب!
العودة إلى مجلس الوزراء ما زالت تتعثّر من تصريح إلى آخر، وما أن تتغلّب على عقبة ما، حتى تقع بأفدح منها، وأصبحت آخر مؤسسة دستورية عاملة في الدولة مرشّحة للدخول في غيبوبة سياسية تشلّ ما تبقى من قدرتها على تسيير شؤون البلاد والعباد!
وإذا استفحلت أعمال الشغب والعنف في الشارع، ولم تحزم الأجهزة الأمنية أمرها للتصدّي والإمساك بمسببيها بقوة وحزم، يكون البلد بالفعل قد سقط في المحظور، دوّامة من الفوضى والعنف الأعمى، قد يريده البعض، ليبرّد تنصّله من الطائف، والسعي إلى «مؤتمر تأسيسي» جديد!
ويبقى السؤال: ماذا ينفع المتصارعين على السلطة والصفقات إذا تحوّل البلد مرّة أخرى، إلى ركام بسبب معاركهم الدونكيشوتية؟
أم تُرى أن لبنان أصبح خالياً من الحكماء، بمستوى الرباعي المدني التونسي، وهو يفتقد، ومنذ فترة، قائداً يتحلّى بحكمة وبُعد نظر راشد الغنوشي، قائد حزب النهضة التونسي، الذي غلّب مصلحة الوطن على مصالح حزبه، وتخلّى طوعاً عن التفرّد بالسلطة، والذهاب إلى التوافق مع الشركاء السياسيين الآخرين، والعمل معاً على بناء تونس الحديثة القائمة على الديمقراطية التعددية، وعلى الإعتراف بالآخر، واحترام الخلاف مع الآخر!
إنه درس من ثورة الياسمين، ليس برسم اللبنانيين وحسب، بل للعرب أجمعين!