Site icon IMLebanon

لبنانيون يعيشون على الفُتات… هل المقصود دفعُنا الى التسوُّل؟

300 دولار، هذا كلّ ما تتقاضاه نغم شهريّاً مقابل عملِها في أحد معامل الشوكولا في برج حمّود، أمّا شقيقها الذي يعمل في مجال التصوير فـ»يوم بيِشتغل و10 لا». فيما والدتهما حنان تحتاج إلى 800 دولار شهرياً مصاريف استشفائية بسبب إصابتها بمرض السرطان، «يعني كلّ لبِطلّعُوُن ولادي بيصِرفوُن حقّ دوا»، على حدّ تعبير تلك الأرملة. حال هذه الأسرة ليست أفضلَ من سواها من العائلات اللبنانية التي بدأ الفقر يَدقّ بابَها في السنوات الخمس الأخيرة، وسط غلاء المعيشة، فخرجَت تطوف في الشوارع باحثةً عمّا يُقدَّم مجاناً لتعتاش منه.

تغيبُ الإحصاءات الرسمية المواكِبة لواقع الفقر في لبنان، فيما تَحضر بقوّة ملامح تفَشّيه بين اللبنانيين، مع الإشارة إلى أنّ إحصاءات البنك الدولي الأخيرة أظهرَت أنّ 30 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر. «لا حاجة لاحتساب مستوى دخلِ عائلتي»، تقول وداد مشيرةً إلى أنّها «وأولادها الثلاثة يستهلكون ربطة خبز واحدة أسبوعياً».

إلتقَت «الجمهورية» وداد وهي تجلس منذ الصباح الباكر على حافّةٍ في الشارع المقابل لكنيسة القدّيسة تقلا – سدّ البوشرية، في يدها كيس «نيلون» مرّةً تتأمّله ومراراً تنظر إلى النسوة اللواتي يتحلّقن حولها وفي جعَبِهنّ أيضاً أكياس فارغة. ولدى استفسارنا عن سبب الأكياس، تُجيب وداد: «نحن ننتظر السوق، لنتزوَّد بحاجاتنا…»ببلاش».

«ألف ليرة ما في بالبيت»

وداد أمٌّ لثلاثة أولاد، صبي في الحادية عشرة من عمره، وابنتان في العاشرة وفي الثامنة، تَحار من أين تؤمّن لهم لقمة العيش، فتقول: «زوجي مدمِن على المخدّرات وطبعُه صعب، يعمي العنفُ بصيرتَه ليلاً نهاراً، جُلّ ما يفعله أن «يُشَحّدنا اللقمة» ما إن يرى ليرةً في جيبي حتى ينتشلها ويشتري المخدّرات».

ما يزيد ظروف وداد قساوةً أنّها تعجز عن تركِ أولادها، وتحديداً إبنتيها، مع والدهم، «لأنه قد لا يتردّد في المتاجرة بهنّ مقابل المخدّرات، صارحتُه مراراً بضرورة الخضوع لعلاج، ولكنّه يرفض الاعترافَ بأنّه مدمن».

بينما تروي وداد ظروفَ حياتها دقّت الساعة التاسعة صباحاً، وكأنّ الحيّ تحوّلَ إلى تظاهرةِ محتاجين، غصَّ بالنسوة من كلّ حدبٍ وصوب، وسرعان ما أطلّت سيّدة ترتدي قميصاً دُوِّن عليها «سعادة السماء»، تندَه بوجهٍ بشوش: «تفضّلوا فوتوا يا أهلا وسهلا» وهي تفتح الباب.

تَرافَقنا مع وداد وخلفَنا صفٌّ طويل من النسوة، دخَلنا الغرفة الأولى وهي عبارة عن قاعة استقبال العائلات المحتاجة.

وهنا لا داعيَ ليسألَ أحدٌ الآخر عن ظروفه أو أسباب مجيئه، فلسانُ حال العائلات: «لو مِش محتاجين ما منِجي». تُعتبر هذه المحطة الأولى أساسية، ولها خصوصيّتُها، نظراً إلى ترَدّي الأوضاع المادّية لمعظم القادمين، لا بل افتقارهم إلى النقود في محفظتهم، يَمنحهم القائمون على «السوق» عملاتٍ ورقيّة وهمية، مطبوعة بألوان متفاوتة، الأزرق يخوّل حامليه استبداله بالزيت، والورقة الخضراء تُستَبدَل بالحليب.. وغيرها، فلكلّ لون رمزيتُه. كذلك في هذه الغرفة يتمّ تدوين أسماء العائلات القادمة للمرّة الأولى، على نحوٍ يتمّ فيه التعرّف إلى احتياجاتها الدائمة.

وسط حرارة الترحيب والإصغاء إلى معاناة القادمين، انتقلنا عبر ممشى صغير لنصلَ إلى باحة كبيرة مُقسَّمة إلى أجنحة، لكلّ منه مشاهداته الخاصة التي تنضح ألماً وعوزاً.

ففي قسمِ بيعِ المونة والخضار تتهافت النسوة للتزوُّدِ بحاجياتهنّ الأساسية، «أنا عندي ولدين صغار»، تقول هدى غامزةً أنّها تحتاج إلى كمّية أكبر، أمّا سهام فتقف تندب حظّها كيف انتهت «البطاطا» قبل أن تتمكّن من أخذِ حصّتِها: «سناني هرّو»، ماذا بوسعي أن آكل؟».

فيما العمّ فؤاد يقف في الوسط مستطلِعاً الأجواء، قائلاً: «اليوم ليس دوري، ولكنّني أتيتُ عسى ألّا أعود خاليَ الوفاض، بالأمس أتاني زائر فقمتُ بواجبي معه وانتهَت ربطة الخبز».

إلى جانب الخضار، جناح أوسع خاصٌّ بالملابس، من عمرِ حديثي الولادة إلى المقاسات الكبيرة، ملابس موزّعة على الرفوف وعلى «ستاندات» متنقّلة، بشكل مرتّب، ويمكن لمن يريد إلقاء نظرةٍ عليها، وتجريبُها، و»إذا مشي الحال صحتَين عَ قلبك»، على حدّ تعبير إحدى المسؤولات عن ترتيب الثياب. تشهد الملابس تهافتاً لافتاً من فئتين، في قسمِ الأطفال، أمّهات يَختَرن ملابسَ لأولادهنّ، وفي قسمِ الكبار مسنّون يتزوّدون بما يَقيهم لسعة البرد.

خلفَ الملابس زاوية مخصّصة للأحذية المستعملة، وبوسعِ من يريد اختيار الحذاء الذي يناسبه، وهنا صرخةُ الزبائن واحدة، مشكلة المقاسات، فإمّا رقم 7 مفقود، وإمّا الاحذية «كعبا عالي»، يصعب السير بها خصوصاً للمتقدّمين في السن.

أمّا الجناح الأخير، فهو عبارة عن مكتبة وزاوية مخصَّصة للألعاب، حيث وقفَت راغدة مطوّلاً تُفكّر في ما يمكن أن تهديَه لابنها بعدما سجَّل تقدُّماً ملحوظاً في علاماته، وبين رواية أو لعبة السلّم والحيّة، إختارت الثانية، «لأنّ بوسعه التشاركَ بها مع شقيقه».

700عائلة أسبوعياً

بعد مرافقتنا العائلات أثناء التبضُّع، التقَينا المسؤولة في «سوق الأربعاء» هدى ضو، التي أوضَحت أنّ هذا السوق يتبع لجمعية «سعادة السماء» للأب مجدي العلّاوي، وهو عبارة عن «سوبرماركت مجّاني للعائلات المحتاجة، حيث تأتي كلّ أربعاء للتزوّد بحاجياتها».

وتضيف: «بصورة عامّة ألفين و400 عائلة تستفيد من السوق، ويقصدنا أسبوعياً نحو 700عائلة معظمها لبنانية، تأخذ ما تريد بالكمّية التي ترغَب، والتي تتناسب مع عدد أفراد عائلتها».

وتلفت إلى «أنّنا نحاول سنوياً توسيعَ هامش تقديمنا للخدمات مواكبةً لاحتياجات الأهالي، بدايةً ركّزنا على الطعام، لاحقاً توَسّعنا في الملابس، والحاجيات الخاصة، وحديثاً بدأنا «نعير» ملابس للمناسبات الخاصة، من عمادات، زواج، وغيرها».

لا تنكِر هدى أنّ التحدّيات جمَّة وأحياناً يَحينُ الأربعاء والمساعدات غير مؤمَّنة، ولكنّ الأب علّاوي «يدعونا دوماً للاتّكال على الله، لذا سرعان ما نجد أياديَ بيضاء وفّرت ما يحتاجه السوق من منتوجات».

أمّا المسؤولة عن «بنك سعادة السماء» سلمادا زيادة، فتوضح: «تُشكّل قاعة الاستقبال مفتاحَ السوق، عبرَها يدخل الأهالي للتزوّدِ بكمّية النقود، وهي «بونات» يحتاجونها لاستبدالها بحاجيّاتهم، بذلك نَحفظ كراماتهم، فلا قيمة فعلية لتلك الأوراق إنّما معنوية».

وتضيف: «بالنسبة إلى من يرغب في الحضور للمرّة الأولى عليه فقط أن يُبرز إخراج قيد عائلي وهويتَه، لنتمكّنَ من تلبية احتياجات كلّ شخص يقصدنا، ولتنظيم الحضور إلى السوق عبر بطاقات توزَّع على امتداد السَنة، على نحوٍ لا ينتظر المحتاج في الخارج»، مشيرةً إلى أنّ «جميع العاملين في السوق متطوّعون».

«لقمة حب»

على مسافة أمتار معدودة من تلك السوبرماركت، مطعم رُفعَ عليه إسمُ «جمعية الرجاء»، رائحة الطعام الشهية دفعَتنا للدخول إليه، وهنا كانت الدهشة الكبرى، كبار وصغار يتشاركون المائدة.

في هذا السياق، يوضح المسؤول جان ملكي الهدفَ من هذا المطعم، قائلاً: «كلّ أربعاء وسبت نفتح أبوابَنا لاستقبال المحتاجين، تتّسع الصالة لنحو 100 شخص، يأتون من الساعة 12 ظهراً حتى الواحدة والنصف، نقدّم لهم كلَّ ما هو صحّي ومفيد». ويضيف: «عائلات برُمّتها تحضر، من شيبٍ وشبابٍ وأطفال، لا تتوافر لهم الوجبات الغذائية في حياتهم اليومية نتيجة ظروفهم الصعبة».

أمّا عن الجهة المؤسِسة لهذا المشروع، فيقول: «شقيقي المطران جوزف إبراهيم ملكي من يَسهر عليها، وأنا أساعده فيها، وتقديم الطعام للمعوزين ليس الهدف الوحيد لـ»جمعية الرجاء»، إنّما نهتمّ أيضاً بأطفال منذ 23 عاماً، وهو مشروع في حريصا، ورثناه عن عمّي المطران المرحوم زكريا ملكي، فهو مَن علّمنا فِعل الخير».

في الختام، تختلف أسباب العوَز بين قاصدي «سوق الأربعاء»، وكذلك المستفيدين من مطعم «جمعية الرجاء»، لكن ما يُجمِع عليه المسؤولون في المؤسستَين أنّ عدد المحتاجين إلى تزايدٍ وتضخُّم رهيبين سنوياً، على نحوٍ مخيف. أمّا صرخة المحتاجين إلى الدولة فواحدة: «هل المقصود دفعُنا للتسوّل في بلدنا؟».