لم تهدف زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية إلى تأكيد الحضور التاريخي لفرنسا في منطقة شاركت وحلفاؤها ـــ في بدايات القرن المنصرم ــ في صياغة جزء كبير من سياساتها وفي رسم حدود دولها. المواضيع والقضايا التي تناولها البيان المشترك في ختام المحادثات عكس الحضور المتصاعد للمملكة ليس كقوة إقليمية محورية تتماهى مع المصالح الدولية في المنطقة كأحد الشروط الموجبة لحضورها، بل كشريك للقوى الكبرى في صناعة السياسات ووضع الاستراتيجيات في ميادين بقيت حتى الأمس القريب عبارة عن موجبات وإلزامات تُملى على دول المنطقة للتقيّد بها. عدّد الرئيس الفرنسي المزايا الجيوستراتيجية للمملكة:
«الدولة الأكبر في الخليج حيث الأهمية التاريخية والدينية وعلى مستوى الطاقة، …. الحوار ضروري مع المملكة التي تشهد ثورة حقيقية على الصعيد الثقافي والإقتصادي وثورة فكرية على صعيد الشباب» وأضاف:
«يكتسب حضورنا اليوم في هذه اللحظة الجيوسياسية أهمية كبرى، وأعتقد أننا أطلقنا بعض المناقشات الاستراتيجية في الوقت المناسب وسننتظر النتائج على الصعيد الاستراتيجي والجيوسياسي والإقليمي، وكذلك على المستوى الإقتصادي وعلى مستوى الطاقة وعلى المستوى العسكري أيضاً.»
لا يمكن إلا التوقف عند التحوّل في الموقف الفرنسي حيال الدور الإيراني المهدّد للإستقرار في المنطقة والذي شكّل مفارقة عن كلّ المواقف الفرنسية المعهودة، لا سيما ما تعلّق منها بلبنان وسوريا. المواقف الفرنسية التي كانت تجانب التعبير الصريح عن التمادي الإيراني، بل كانت لا تأبه بالظهور بمظهر اللاهث خلف طهران والطامع باستثمارات إقتصادية لطالما اصطدمت بالصدّ الأميركي، تغيّرت مع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون من الرياض ضرورة التصدي للأنشطة الإيرانية المزعزعة للإستقرار، وعدم إمكانية معالجة ملف إيران النووي دون التطرق إلى الإستقرار الإقليمي وضرورة إشراك الحلفاء ومنهم السعودية في المحادثات، وعدم الموافقة على امتلاك إيران سلاحاً نووياً.
انتزعت القيادة السعودية موقفاً يختلف بشكل نوعي عما سُجّل على الدبلوماسية الفرنسية من تراجع في محطات واستحقاقات عديدة، ولا يسعنا هنا سوى التذكير بالفشل الذي منيت به فرنسا في بيروت بعد المبادرة التي أُطلقت إثر زيارتين قام بهما الرئيس ماكرون لبيروت بعد تفجير مرفأ بيروت، وانحدار سقفها من المطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط من خارج المنظومة السياسية الحاكمة، وإجراء تحقيق شفاف بحادثة التفجير، إلى القبول وربما توسّل تشكيل حكومة خاضعة لسيطرة المنظومة وغير قادرة على الإجتماع بسبب اعتراضها على استدعاءات قاضي التحقيق لبعض أزلام المنظومة من السياسيين. الموقف الفرنسي الجديد لن تنتهي مفاعيله مع الزيارة، بل سيُبقي فرنسا تحت مجهر المتابعة سواء عبر تتبّع موقفها من التعنّت الإيراني في مفاوضات فيينا، أو من الإعتداءات الحوثية الدائمة على جنوب المملكة ومن محاولات تعطيل نتائج الإنتخابات العراقية وعرقلة إنتاج السلطة، أو فيما يتعلّق بالعملية السياسية في سوريا.
ما يتعلّق بلبنان في متن البيان المشترك لم يكن سوى إعادة تقويم للدبلوماسية الفرنسية مما اعترى ممارساتها السابقة من شوائب. التشديد على القرارات الدولية المتعلّقة بلبنان، 1559و1701و1680 والإلتزام باتّفاق الطائف ليسا سوى تأكيد على الإلتزام بالشرعيتَين الدولية والعربية وعلى التمسّك بعروبة لبنان. وفي هذا أكثر من رسالة في كلّ الإتجاهات لا سيما نحو من عطّل المبادرة الفرنسية في الداخل اللبناني، ونحو طهران للتأكيد بأنّ الإتفاقات الدولية والتوافقات الإقليمية المتعلّقة بلبنان لا زالت قيَد الصلاحية. كما أنّ التشديد على إلزامية الإصلاحات في قطاعات المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود، وحصر السلاح بالمؤسسات الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات، وتعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على الأمن والإستقرار، كلها ليست سوى لإعادة وضع السلطة اللبنانية أمام مسؤولياتها والإعلان مجدداً أنّ زمن التسويات المجانية على حساب الإستقرار الإقليمي قد ولّى إلى غير رجعة. الإتصال الهاتفي الثلاثي بين الرئيس ماكرون وولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس نجيب ميقاتي لا يمكن قراءته إلا من قبيل تكريس دور رئيس الحكومة بصفته مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة والمشرف على أعمال أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وأمنية وعسكرية بلا استثناء (المادتان 64 و65 من الدستور).
ما يتعلّق بالمملكة العربية السعودية في متن البيان جملة من الأدوار والشراكات التي تؤكّد على وضوح الرؤيا لدى صانع القرار والثوابت التي تتمسّك بها المملكة، وتأكيد على قدرتها في استثمار نقاط قوّتها وارتقائها الى مستوى الشريك الفاعل في مجالات الطاقة، والمدن المستدامة، والطيران المدني، والإقتصاد الرقمي والتطبيقات النووية، كما في تطوير إنتاج الهيدروجين النظيف وتوسيع نطاق التعاون بين الجامعات وفي مجالات البحث العلمي والتطوير.
ما يعني لبنان من البيان موجّه بشكل واضح إلى سلطة تفتقر لأبسط مقومات الحوكمة الرشيدة، سلطة سرقت ما في الداخل ومصرّة في الوقت نفسه على التسوّل من الخارج، سلطة تقيم كل الحواجز مع الداخل وتسقط كل الحدود مع الخارج، سلطة تعتبر السيادة الوطنية عبئاً عليها وتعهد بها لكل عابر سبيل.
في لقاء الرياض نجحت المملكة في استخدام أوراق قوتها لتقويم بوصلة الزائر الفرنسي، كما وضعت السياسة الخارجية الفرنسية أمام اختبار حقيقي لدورها في منطقة امتلكت مقوّمات منعتها ولم تعد قابلة لترسيم جديد. في لقاءات سابقة في بيروت أسقط أهل الحكم في لبنان كل أوراق قوتهم وانقسموا بين الحنين لانتداب قديم والإرتماء في أحضان مستعمر جديد. في الرياض وبيروت زائر واحد ومشهدان مختلفان، وتساؤلات عديدة لا بدّ للبنانيين الذين يعيشون أكثر المراحل حراجة ويقفون أمام استحقاقات وجوديّة، أن يتوقفوا عندها.
مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات