Site icon IMLebanon

صانعو الفراغ اللبناني

لن يبقى من نداء القمة الروحية اللبنانية سوى الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، ذلك أن النخبة السياسية مولعة بالفراغ، وقد تعمد الى اصطناعه إذا لم ينشأ من تعقيدات الداخل والإقليم.

ويبدو أن حرب اليمن، التي يريد لها العرب والعالم أن تكون قصيرة تنتهي باستعادة الشرعية واستكمال قوام الدولة، هي مناسبة جديدة لتكريس الانقسام اللبناني وحفظ الفراغ. لا ندعو إلى حجب الاختلاف، ولكن ثمة فرق بين حرية الرأي واحتشاد متشنج يضع غالبية الشعب في حال خوف من قرقعة السلاح.

يصنع السياسيون اللبنانيون الفراغ بمهارة، ولا يدري أحد كيف يتصور هؤلاء مستقبل وطنهم حين تملأ الفراغ ميليشيات من خارج الحدود تجد حلفاء في الداخل. الدولة لا تبقى دولة إذا تقطّعت شرايين توصلها بالمواطنين، فهؤلاء يرغبون بتوريث أبنائهم وطناً لا حسابات مالية في سويسرا أو أمكنة في مخيمات اللاجئين.

ماذا ينقص لبنان اليوم؟ ينقصه أن يكون هو «لبنان»، أي تنوع الاجتماع وتعارف المختلفين في إطار الوحدة، فوحده المواطن اللبناني، مثلاً، يعرف جيداً طقوس المسلمين والمسيحيين في الولادة والزواج والموت. وإذا كانت الوطنية تولد في قلب الأزمات الكبرى كما يبرز زعماء عابرون للطوائف، فلماذا نفتقد هذا البروز اليوم؟ هل السبب نمط الإنتاج السياسي أو الريعية التي تتطلب تعصُّباً وبلادة؟

ينقصنا «المستوى»، قال أحد رجالات الاستقلال الأحياء، ولئلا أفهمه خطأ أوضح أنه يعني إنجاز الأشياء في العام والخاص، ضمن «المستوى»، لأن ما يُنجز هذه الأيام مستواه ضعيف إن لم نقل أسوأ. والتعبير «مستوى» يفترض في حامله نزعة إنسانية لا تخطئها العين وأخلاقاً وتمدُّناً وطموحاً.

أينما التفتّ في لبنان تقع على فراغ، وفي السياسة تحديداً، فليس سياسياً حقاً هذا أو ذاك من مردّدي الكلام/ الصدى. يخاطبون اللبنانيين باسم غير اللبنانيين، كأنهم مندوبون، ولنقل إنهم يترجمون كلام البعيد بلغة القريب، ولتكن عامّية أقرب إلى فطرة الناس.

مع ذلك، صورة لبنان إيجابية لدى العرب، ومنهم من يحرص على الوطن الصغير ربما أكثر من بعض أبنائه المتزعّمين. ذاك من التراث الباقي مما قبل الحروب الأهلية والحروب بالوكالة. سُئل نائب لبناني في تلك المرحلة لماذا يهتم بمصالح مواطنين خارج دائرته الانتخابية، أجاب إنه نائب عن الأمة لا عن منطقة معينة. كان ينفّذ الدستور بسلوكه، ولا يعتبره مجرّد كلام منمّق.

كان استقرار لبنان مرتبطاً بوفاق العرب، حتى إذا اختلفوا انعكس خلافهم سلباً عليه مجتمعاً ودولة. ولكن، في ذروة صراع المحاور الإقليمية، دعا الرئيس كميل شمعون الى مؤتمر قمة عربي في بيروت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، حضره قادة عرب، من بينهم خصوم لجمال عبدالناصر الغارق في مواجهة العدوان الثلاثي. ومن شرفة فندق ريفييرا على كورنيش بيروت تضامن ملك العراق وملك الأردن ورئيس لبنان مع الشعب المصري وقيادته، وتناسوا خصومتهم للناصرية وكونهم قريبين مما سُمِّي آنذاك «حلف بغداد».

مات كميل شمعون، ويفتقد لبنان اليوم زعماء يتضامنون مع خصومهم لحفظ الاستقرار في المنطقة، وذلك بإعلاء شأن الدولة فوق الميليشيا وهيئات ما دون الدولة.