في كتابه الذي يسرد فيه رحلاته في الجبال اللبنانية، والذي نشر بعد وفاته تحت عنوان «قلب لبنان»، يفرد أمين الريحاني عنواناً فرعياً ظريفاً: «الانتداب اللبناني على اليمن».
يقول الريحاني، وهو أحد أهم أدباء لبنان في القرن الماضي ومُهمَلٌ تراثه اليوم لحساب من هم أقل منه شأناً في عصره، ومن هم أقل فأقل شأناً بعد ذاك: «إن هؤلاء اللبنانيين يذكروني في غير واحدة من أحوالهم، وفي الكثير من سحناتهم وأشكالهم بأهل اليمن، فالجمجمة الطويلة، وعظم الخد العالي، والأنف الطويل، والوجه المخروط، والفم المستفيض كلّها من عرب حِميَر». من يكتب هذه الكلمات كان طبعاً رحالة ثاقب النظر، ومغامر بطبيعته، وشيق الإيقاع في كتابته، جال في أنحاء شبه جزيرة العرب وهضبة اليمن، وترك لنا معلومات ومشاهدات قيّمة عن حكام الجزيرة، بمن فيهم الإمام يحيى في اليمن، ومجالسهم، ومعلومات اثنوغرافية تُبقي نصّه منجماً لمن يرتاده اليوم. كذلك، يتفرّد الريحاني أدبياً بأدب الرحلة في الداخل اللبناني، بدلاً من أن يقتصر أدب الرحلة الى الجبل اللبناني على المستشرقين كفولني ولامارتين ودو نيرفال. ولا يزال الاستبعاد الحاصل لما كتبه الريحاني عن الجبل اللبناني يترك فجوة في تاريخ وعينا الكياني.
والريحاني لا يقتصر في تشبيهه جبال لبنان بجبال اليمن، ووجوه اللبنانيين باليمنيين، تأخذه الحماسة في الوصف لجمع «الموارنة» على «الزيود» (أتباع المذهب الزيدي). يقول: «وما يدريك أن الزيود اليوم، هم يزيّنون رؤوسهم بأغصان من الحبق (الريحان)، والموارنة الذين يزرعون الحبق (الريحان) في مصاطب بيوتهم الجبلية هم أبناء عم، من سلالة جبلية واحدة».
لكن «النهفة» في أدب الريحاني تظهر حين يسأل بطرافته الغمّازة «أفلا يحق للبنانيين بعد هذا أن يدّعوا ملكية اليمن، وأن يبسطوا حمايتهم على تلك البلاد السعيدة، فما قول غبطة البطريرك بانتداب لبناني في صنعاء؟«.
الأكيد أنّ الريحاني لم يكن ليتوقع أن يقوم انتداب كهذا بالفعل. المهم أن ما اقترحه، في نهفته الأدبية، على بطريرك الموارنة، حدث جزئياً بعد ذلك في لبنان. في الستينات، كان الناس يتابعون مجريات حرب اليمن أولاً بأوّل، بتأثير «المدّ الناصري» وصراع المحاور العربية. في السبعينات والثمانينات، فرد اليسار اللبناني، الحزب الشيوعي ومنظمة العمل «انتدابهم» على اليمن الجنوبي. كان قادة الحزب والمنظمة يتنقلون بين أرجاء التجربة «الماركسية» اليتيمة في حكم بلد عربي، ويتدخّلون في أزمات الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن، أو يعرضون الوساطات. أما في التسعينات فبدأت حكاية الانتداب اللبناني الخميني على اليمن، ممثلة بالتعاون المتزايد بين «حزب الله» و»جماعة الحوثي». اللافت أن أكثر من تكلّم عن تدريب وتوجيه كوادر «حزب الله» لمقاتلي الحوثي هو الرئيس السابق علي عبد الله صالح في جولاته الحربية مع الحوثيين. أكثر من هذا، سبق لصالح أن أتهم الحوثيين، ورعاية «حزب الله» لهم، بالتعاون مع تنظيم «القاعدة« في جنوب وشرق البلاد. علي عبد الله صالح هو الآن في «حلف إقليمي» مع «حزب الله». الشيء نفسه بالنسبة الى رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. اتهم قبل ثماني سنوات «حزب الله» بتدريب مقاتلي «جيش المهدي»، ثم وسّع الاتهام ليصل الى تنسيق «حزب الله» مع تنظيم «القاعدة« و»دولة العراق الإسلامية» في الأنبار. المالكي مثل صالح في جبهة مشتركة، يُراد لـ»حزب الله» أن يكون طليعتها الحيوية، ما يعود جزئياً الى الكفاءة الكاريزمية الاستثنائية إقليمياً لأمينه العام.
صحيح أنّ اللبنانيين منقسمون حول «المسألة اللبنانية»، و»طبيعي» أن ينقسموا حولها، كما أنه من «الطبيعي» أيضاً أن يكون أكثر اللبنانيين لا يعرفون كثيراً عن اليمن، فقلة منهم فقط سارت على خطى أمين الريحاني وتنقلت بين جباله الآسرة ومدنه الخرافية. لكن ما هو «خارق للطبيعة» هو أن تتحوّل نهفة أمين الريحاني الى أحد وجوه المرارة، المتعددة، في الواقع اليمني.
اليوم فعلاً، وبمعية الانشطار اللبناني حول اليمن، والرعاية التي يقدّمها «حزب الله» لحركة «أنصار الله»، وتناسي الجميع، إنما «حزب الله» في المقام الأول، آلاف الكيلومترات التي تفصل بيروت عن صنعاء، فنحن نعيش حالة – ولو وهمية – من «الانتداب اللبناني على اليمن» التي اقترحها – في واحدة من نهفاته الكثيرة – أمين الريحاني، عندما طرح السؤال «فما رأي غبطة البطريرك بانتداب لبناني في صنعاء؟».