IMLebanon

رسائل لبنانية إلى سوريا والعـراق

يخوض السيّد مقتدى الصدر، زعيم «التيار الصدري» في العراق، حملة ضد الفساد ومن يسمّيهم «دواعش الفساد»، ويتلاقى في أهداف حملته مع مراجع دينية وسياسية رفيعة في البلاد تطالب بالإصلاح.

الحملة مفهومة ودوافعها مبرّرة، لأن الفساد الذي انفجر بعد الغزو الأميركي للعراق تجاوز أعلى السقوف وحطّم كل الأرقام القياسية. لكن الأمر غير المفهوم، وغير الواقعي، تركيز حملة الإصلاح على مطلب مركزي وهو إلغاء المحاصصة في الحكومة والمناصب الكبرى وتشكيل حكومة من التكنوقراط، أي تسليم السلطة التنفيذية إلى «أطباء تقنيين» معزولين عن القوى والمصالح السياسية، يتمّ اختيارهم بالاستناد إلى خبرتهم وكفاءتهم من دون أي اعتبار آخر.

للفساد في العراق في هذه المرحلة بالذات بعدٌ آخر، لا يجوز إغفاله. فهو يقضم ثروات البلاد وحقوق الأجيال المقبلة ويعرّضها للهدر والسرقة، لأن العراق يسرّع إنتاج النفط بشكل لافت ومفاجئ للأسواق العالمية. فقد حقق سنة 2015 أكبر زيادة في العرض النفطي بعد المملكة العربية السعودية، ووصل إنتاجه حالياً إلى 4.5 ملايين برميل من النفط الخام يومياً، بما في ذلك النفط المستخرج من كردستان. وبذلك تجاوز إنتاج النفط العراقي الحدّ الأقصى الذي سجّله سنة 1979، قبل حربه مع إيران. جاءت أكبر زيادة من حقول النفط في الجنوب العراقي الذي يختزن 75 في المئة من احتياطي النفط في البلاد.

استرشاداً بتجربتنا اللبنانية «العريقة» يمكن القول، بل الجزم، إن المحاصصة هي القاعدة في كل نظام سياسي قائم على الطائفية. والمحاصصة تقود إلى الفساد، بل تجيز الفساد «المفرط»، وتجعله بمنأى عن المحاسبة، لأن هوس القاعدة الشعبية وأولوياتها تتركز على الصراع الطائفي والاقتتال السياسي وغير السياسي مع الطوائف المقابلة. القواعد الشعبية المهووسة بهذا الصراع تمنح الثقة وتفوّض السلطة إلى القادة الطائفيين الذين يقودون الصراع الطائفي، فتجعلهم فوق الدولة والدستور والقانون وأقوى من كل المؤسّسات.

ما دامت تتمتّع بهذه القوّة وهذا التفويض، من السذاجة الاعتقاد بأن القوى السياسية الطائفية يمكن أن تتنازل عن سلطتها للتكنوقراط الواقفين أمام الطبقة السياسية في العراء، مجرّدين من أي قوّةأو نفوذ مستقلّ.

الطائفية أمّ المحاصصة والمحاصصة أمّ الفساد، ولا أمل بالإصلاح في ظل تجذر النظام الطائفي والصراع الطائفي في النفوس قبل النصوص.هذه القاعدة الذهبية ليست درساً للعراق في أزمته الراهنة وحسب، بل هي أيضاً «موجز تاريخ لبنان السياسي».

تتصاعد نقمة العراقيين على المحاصصة التي قادت في الأيام الأخيرة إلى أزمة سياسية حادّة فعطّلت البرلمان وعرقلت باقي المؤسّسات. وبالتزامن، يكفر اللبنانيون بالنظام الطائفي الذي غيّب رئاسة الجمهورية وعطل المجلس النيابي وعرقل أعمال الحكومة. يبذل رئيس مجلس النواب اللبناني أقصى جهوده لعقد جلسة تشريعية لبت مشاريع القوانين الملحّة، ولا ينجح، وفي العراق يعلن رئيس البرلمان مضطراً تعليق الجلسات التشريعية، لوقف الاشتباكات والتضارب بين النوّاب. النتيجة واحدة في الحالتين: البرلمان مقفل إلى إشعار آخر.

صدفة، وفي هذا الوقت بالذات، نشرت وسائل إعلام دولية معلومات ترشّح أن أميركا وروسيا تطبخان حلولاً سرّية للحرب السورية، وأن هذه الحلول تقوم على مبدأ المحاصصة وتقاسم السلطة بين الطوائف.

سوريا بعد الحرب بحاجة إلى نظام سياسي مستقرّ ومتماسك وقادر على اتخاذ القرارات الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب، في إطار خلاّق يرضي كل المكوّنات الوطنية المؤمنة بوحدة سوريا وبدولة عادلة ومدنية. لن يفيد سوريا أبداً نظام محاصصة يطلق العنان للفوضى ولسلسلة لا تنتهي من المماحكات والمجادلات والمناورات السياسية والطائفية التي ستنتهي بتعطيل قدرة الدولة على اتخاذ القرارات، وعلى الاستجابة للمهمّات التاريخية التي تنتظرها.

إضافة إلى مهمّة توحيد البلاد وإعادة تنظيم الجيش والقوى الأمنية وتحقيق الوئام بين مكوّنات البلد، إذا نظرنا إلى بعض جوانب الوضع الاقتصادي والاجتماعي الراهن تبدو السياسات والقرارات والخيارات التي على الدولة إنتهاجها وحسمها بعيداً عن معوّقات المحاصصة.

ناهيك عن الأرقام التي تمّ تداولها كثيراً عن عدد القتلى والمصابين، وكذلك عن نزوح وتشرّد نصف السكان، ذكر البنك الدولي في تقرير حديث أن «الصراع أدى إلى إلحاق دمار هائل في أصول البلاد العامة والخاصة، بما في ذلك البنية التحتية للصحة والتعليم والطاقة والمياه والصرف الصحي والزراعة والنقل والإسكان وغيرها من البنى التحتية». وأشار التقرير نفسه إلى تقديرات للأمم المتحدة بأن الناتج المحلي الإجمالي تراجع بنسبة 19 في المئة سنة 2015 وأن إعادته إلى مستويات ما قبل اندلاع الصراع ستتطلب استثمارات لا تقلّ عن 180 مليار دولار.

ولا يجب إغفال المؤشرات التي تؤثر على شروط حياة السوريين لسنوات وربما لعقود، وأبرزها ارتفاع معدل التضخم بنحو 90 في المئة عام 2013 و30 في المئة عام 2015 مع توقع ارتفاعه بنسبة 25 في المئة في العام الجاري. هذه القفزات الهائلة في معدّل التضخم ترسم صورة الصعوبات الهائلة التي ستواجه السوريين لفترة طويلة، حتى بعد توقف الحرب، بحيث أن عودة مستوى المعيشة إلى ما كان عليه سنة 2010، على علّاته، سيتطلب سياسات سليمة وجهوداً مضنية لفترة لا يمكن تحديدها.

الذين يطبخون دستوراً لسوريا، بالسر أو بالعلن، أمامهم مهمّة صعبة، وهي إيجاد دستور خلاّق يحقق في آن معاً وحدة البلاد واستقرار النظام وفعالية الدولة، والعدالة للجميع.