IMLebanon

لبنانيّو ميشيغن وبيئة ترامب

محمد فضل الله

لعل أبرز مشكلة خلال الحرب التي انتهت فصولها لبنانياً (والتي شَهِدتْ تحمُّل مقاتلي المقاومة أعباءَ الخلل السياسي الأمني، وأَظهروا أنهم حرفياً فوق الطبيعة إذْ تمكّنوا من إعادة ترتيب أوراق المحور كاملاً في اللحظات الأخيرة) كانت فصْل الصراع مع إسرائيل عملياً عن الصراع مع الإمبريالية الأميركية، بالذات بعد ضرب المقاومة العراقية المظفرة لقاعدة عسكرية أميركية في الأردن في كانون الثاني الماضي وقرار تحييد القواعد العسكرية الأميركية عن الهجمات. نَذكر كيف أنه حتى تلك اللحظة كانت الإدارة الأميركية تتعامل مع الحرب الجارية في قطاع غزة على أنها جزء من أمن جنودها المباشر في الشرق الأوسط، وكان الضغط على القواعد العسكرية الأميركية يُنتِج ضغطاً على إسرائيل؛ لكن بعد قرار الفصْل الكارثي تحت عنوان أننا لا نريد توسيع رقعة الحرب، وهي في نهاية المطاف توسّعتْ إلى لبنان وأدّتْ إلى ضرب الأراضي الإيرانية للمرة الأولى فيما القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة في مأمن، أصبحت الإدارة الأميركية، ومعها الإعلام الأميركي، يتعاطيان مع الحرب في المنطقة على أنها شأن محلي أو إقليمي شرق أوسطي بعيدٌ عن المصالح المباشرة للولايات المتحدة وأمن جنودها المنتشرين هناك، وباتت أقدر على اتخاذ قرار الدعم المطلق لإسرائيل بالسلاح والمال دون أي رادع. وبَدأتْ أخبار الحرب في قطاع غزة ثم لبنان تَنزل من الخبر الأول بالخط العريض إلى زاوية الخبر الثاني أو الثالث في صفحات الجرائد الأميركية، ليس لأن الجمهور الأميركي ملّ تغطية هذه الحرب كما يَكتب البعض، بل لأن هذا الجمهور لم يعد لديه ارتباط مباشر معها، لم يعد لديه أقارب أو أصدقاء يُقتلون أو يصابون هناك، أو على الأقل يتخوّف من إصابتهم في هجومٍ ما محتمَل هناك، وهو ما جعل قَمْع التظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين أسهل من قِبَل إدارات الجامعات الأميركية (فقدان هذه التظاهرات للمقاربة الواضحة ودور ذلك في نهايتها سنتحدث عنه في مقالات لاحقة). الفكرة هي أن دول الأطراف يجب أن تضع هدفاً دائماً ومباشراً لها التواصل مع شريحة محددة في الحاضرة الإمبريالية (أو الحواضر الإمبريالية في لحظة معينة، وبالتالي علينا أن نَعتمد هذه السياسة تجاه الصين اليوم أيضاً، وأن نَبحث عن الشريحة داخل الحاضرة الصينية التي سنتواصل معها، ولا معنى للتواصل مع «السلطات الصينية»)، وأن ما نشهده على مستوى محلي أو إقليمي ليس سوى تمثّلات وتداعيات لما يَجري هناك، وأي سهو عن هذا المبدأ سيؤدي إلى غرق لا نهاية له في سلسلة من الأحداث المحلية أو الإقليمية تبدو غير مترابطة ولا يمكن فهم إلى أين يريد فاعلوها الوصول.

في انتخابات الرئاسة الأخيرة في الولايات المتحدة، بَرَز الصوت اللبناني والعربي في الولاية «المتأرجحة» ميشيغن كلاعب رئيسي، وحظي بتغطية إعلامية مقبولة، ولكن علينا ألا نركن إلى إمكانية تكرار ذلك دائماً، ومثال الحركات الحقوقية للسود يجب أن يبقى حاضراً في أذهاننا؛ فالإدارات الأميركية المتتابعة تمكّنتْ في نهاية المطاف من تحييد، وحتى تدجين، الفاعل الأسود وفصله عن المسار العام للسياسة الأميركية، ويمكن أن تُعيد ذلك مع الصوت اللبناني والعربي في ميشيغن وعموم الولايات المتحدة وإعدامه التأثيرَ السياسي. ما يمكن للبنانيي ميشيغن فعله هو إبقاء حالتهم السياسية حيوية، ليس عبر الفكرة السطحية المسماة «لوبي» في واشنطن العاصمة، بل عبر التواصل مع المكوِّن الرئيسي للبيئة الشعبية للرئيس المنتخَب دونالد ترامب، وبالذات مع الإيرلنديين في الشمال الشرقي (أي على القرب من ميشيغن) والاسكتلنديين الإيرلنديين في جبال الشرق الأميركي، أبالاشيا، خصوصاً أن جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي وأحد أبرز الوجوه السياسية الأميركية التي يمكن التحاور معها ثقافياً (رغم إشكالية مقاربته وفاشيتها في بعض النقاط إلا أنه رجل قارئ يمكنكَ تتبّع الفرضية التي يَطرحها وتفنيدها، على عكس معظم السياسيين الأميركيين التافهين ثقافياً مثل كامالا هاريس وجو بايدن وغيرهما)، هو يَنتمي إلى هذه المنطقة ويتحدث عن انتمائه الاسكتلندي الإيرلندي وهو تحوّل إلى الكاثوليكية (وهذا توجّه من المهم أن نلمّ بأسبابه بين مثقفي وأكاديميي اليمين الأميركي كنيوتن غينغريتش وغيره، أي على عكس اتجاه اليمين في أميركا اللاتينية، من الكاثوليكية إلى الإنجيلية)، ويبدو أن فانس في طريقه لكي يصبح رئيساً للولايات المتحدة في السنوات المقبلة أو على الأقل أحد أهم المنافسين على هذا المنصب.

«المجيء الثاني» لترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة يسلّط الضوء على تشكيل الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، وهناك الكثير من اللغط حول هذه المسألة اليوم، معظمه يَفتقد إلى المقاربة المنهجية الملائمة. في منتصف القرن العشرين تمّ تشكيل «البِيض» في الولايات المتحدة؛ علينا أن نتذكّر أنه حتى تلك اللحظة لم يكن هناك «مجتمع أبيض» وكانت هويات مثل بريطاني أميركي وإيرلندي أميركي ويهودي أميركي وإيطالي أميركي وغيرها، كانت تَعني أنك ستعيش في مناطق محددة ولك أسواقك المحددة في المدينة ويمكنك أن تَعمل ضمن عدد محدد من الوظائف (ليستْ كلها متاحة لك)؛ لذلك لا يمكن الحديث عن «طبقة عاملة بيضاء» ما قبل منتصف القرن العشرين. لقد تمّ ضمّ الإيرلنديين والاسكتلنديين الإيرلنديين الذين كانوا يشكّلون القاعدة الرئيسية للطبقة العاملة في الولايات المتحدة، تمّ ضمّهم إلى هوية جديدة وأصبحوا بيضاً، لكنهم لم يحظوا بامتيازات البيض، ولذلك حين يَشكوا هؤلاء اليوم من أنهم فقراء وفي الوقت نفسه يُتَّهَمون بأنهم يستفيدون من امتيازات البيض، فذلك ببساطة لأنهم لم يكونوا بيضاً يوماً، بل هم إيرلنديون واسكتلنديون إيرلنديون، ولأن الإستابلشمنت الأميركية قامت بخلْع الأوصاف التي كانت تطلقها على الإيرلنديين والاسكتلنديين الأميركيين على مجمل الطبقة العاملة (Scots-Irishing the working class)، ولذلك ما يقوم به الإيرلنديون والاسكتلنديون الإيرلنديون يصبح مع الوقت السياسة العامة للطبقة العاملة إلى أي هوية انتمت في الولايات المتحدة، وبالتالي إن تصويت هذه الإثنية لترامب عام 2016 كان يُتوقَّع أن يؤدي بشكل متزايد إلى تصويت مجمل الطبقة العاملة من مختلف الإثنيات لترامب. حين خاطب جو بايدن سكان ديري (التي أسّسها اسكتلنديون إيرلنديون) في نيوهامبشير العاملين في المناجم بأن عليهم تعلُّم برمجة الكومبيوترات لإيجاد وظائف أفضل من التعدين، وما تبعه من انتقادات للطريقة الفوقية في تحديد نوع العمل الذي يجب أن يمارسوه وما يُفترَض أنه عمل أكثر قيمة، كان لا يتحدث إلى العمال البيض هناك كما قيل، إنما كان يكرّر ما كانت تقوله بريطانيا عن تخلُّف إيرلندا اقتصادياً وعدم قدرتها على مجاراة بريطانيا في الانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى اقتصاد الثورة الصناعية. بقاء سياسات الهوية وسياسات الطبقة منعزلتَين ومتناقضتَين لم يكن لقصور نظري، بل لأن الإستابلشمنت الأميركية أرادتْ لسياسات الهوية أن تَنقض سياسات الطبقة؛ هاتان السياستان ليستا متناقضتَين بطبيعتهما، لكن موضعة النقد الهوياتي في قسم الأدب والتوتّر السياسي بين قسمَي الأدب والاقتصاد في الهيكل الأكاديمي الأميركي ومنْع المقاربة الاقتصادية عن النقد ما بعد الكولونيالي (وهي قسمة مَكّنتْ الإستابلشمنت من خلق ديناميات جديدة للمراكمة)، هو الذي يَجعل فَهْم علائقهما أكثر صعوبةً اليوم، وهو أمرٌ كان مختلفاً قبل منتصف القرن العشرين حين كانت العلاقة بين نوع العمل والإثنية التي تَنتمي إليها أكثر وضوحاً. تواصُل لبنانيي الولايات المتحدة، وبالذات ميشيغن، مع الإيرلنديين في الشمال الشرقي والاسكتلنديين الإيرلنديين في الشرق، وهي شريحة مركزية في البيئة الشعبية لدونالد ترامب وشريحة مهمة من حيث التموضع الجغرافي (أهم من تكساس وفلوريدا وبعض الولايات الجنوبية)، ومقاربتهم لهذه الشريحة من منطلق إثني وطبقي مغاير في الآن معاً بدل الخطاب العام حول البيض وامتيازاتهم، يمكن أن يشكِّل بدايةً وتأسيساً لسياسة مختلفة. هل الهدف هنا هو إعادة كتابة تاريخ الولايات المتحدة باعتباره لا شيء سوى قمع إثني طبقي للإيرلنديين والاسكوتلنديين الإيرلنديين، أي كما فَعلتْ الولايات المتحدة مع التاريخ الألماني والأوروبي عبر إعادة كتابته كتاريخ يهودي أوروبي مقموع ومحو كل الاختلافات الإثنية الأوروبية في بوتقة ما يُسمى الاتحاد الأوروبي ما عدا الإثنية اليهودية فيها؟ ليس بالضرورة.

* باحث