IMLebanon

“لهذه الأسباب نحن مُقلّون في الكلام”  

 

 

وزاراتهم فئة ثالثة… يفضّلون العمل في الظلّ ويتجنّبون التشويش

 

دخلوا وزاراتهم وقد يغادرونها من بوابة تصريف الأعمال من دون ترك أثر يذكر على المنابر الإعلامية، مرئية كانت أم مسموعة أم مكتوبة. البعض لم تنصفه حقيبته لسبب أو لآخر – سمّها كيمياء مفقودة مع المنصب. وبعض آخر اعتاد ربما القيادة من الصفوف الخلفية. ثم هناك آخرون اقتصرت إطلالاتهم على الضروري منها بقرار ذاتي تفادياً لسلاح إعلام ذي حدّين. لكن مهما كان الأمر، لا يهمّ المواطن من حيث المبدأ مقدار صمت الوزير الإعلامي بقدر اهتمامه بصخب أعماله وإنجازاته كما طروحاته ومشاريعه. ذلك على قاعدة أن الأفعال عادة ما تكون أعلى صوتاً من الكلمات. جولة والحال كذلك على وزراء ثلاثة قرّروا، ربما استثنائياً، كسر حاجز الصمت. فماذا أخبرونا؟

 

محطّتنا الأولى كانت مع وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية في حكومة تصريف الأعمال، نجلا رياشي، التي اعتبرت في حديث لـ»نداء الوطن» أن الابتعاد عن الإعلام كان قراراً شخصياً إيماناً منها بأن المرحلة تتطلب أفعالاً لا أقوالاً. وشرحت كيف أن «الشعب اللبناني يفضّل في الوقت الراهن الاستماع إلى وزير الاقتصاد يطمئنه عن أزمة الرغيف، أو وزير الشؤون الاجتماعية يزفّ له خبر البدء بالعمل على البطاقة التمويلية، أو حتى وزير الصحة يتكلّم ويستفيض عن حلول ما لأزمة الدواء».

 

منذ استلامها مهامها الوزارية، تعمل رياشي على مقاربة ملفات وزارتها بطريقة إدارية تجعل من إنجازها المهمة الممكنة والمتاحة، كما تقول لنا. من هنا كان إصرارها على إطلاع الرأي العام حصراً على ما هو ضروري وإيجابي من مشاريع مُنجزة. وإذ أشارت إلى أن لكلّ مسؤول في القطاع العام أسلوبه في التعاطي مع الإعلام، ولكلّ موقع مسؤولية متطلّباته وآلية إدارته، أضافت: «أتيت إلى الموقع الوزاري من خلفية دبلوماسية في السلك الخارجي اللبناني الذي لطالما اعتمد على متابعة الملفات وإنجازها في الظلّ. وبالتالي، لم أجد مبرّراً للإكثار من الإطلالات الإعلامية، رغم أن هناك ملفات تتطلّب ممارسة ضغط إعلامي لإقرارها».

 

كيف تصف علاقتها بالرأي العام وما هي سُبُل التواصل معه إذاً؟ «الموقع الوزاري هو منبر لخدمة الشعب وللتواصل مع كافة أطيافه، لذا وضعت نفسي، من خلال إطلالتي الإعلامية الأولى، في تصرّف الناس محاولة إيصال صوتهم، لا سيّما العنصر النسائي الذي أمثّله في المجلس. وقد اعتمدت البيانات الصحافية كما التصريحات الإعلامية لإطلاع الرأي العام على المشاريع المُنجزة، كالتصريح الذي تلا جلسة إقرار الاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي، على سبيل المثال»، تجيب رياشي.

 

صحيح أن إطلالاتها الإعلامية كانت معدودة، غير أن عمل وزارتها لم يخلُ من منجزات جاءت نتيجة جهد تراكمي لعدّة وزراء سابقين تعاقبوا على الوزارة: «أبرز الملفات التي عملت على إنجازها شخصياً، إقرار الاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي – والتي بدأ تطبيقها فعلياً – سعياً للانتقال بالدولة من كيان متهالك ينهشه الفساد إلى دولة حديثة عادلة يطمح إليها جميع اللبنانيين. ثم هناك ملف مكافحة الفساد حيث تمّ، للمرّة الأولى، إنشاء وتعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ناهيك بتعميم القوانين الإصلاحية الأخرى ووضعها قيد التنفيذ الفعلي، كقانون حق الوصول الى المعلومات وحماية كاشفي الفساد».

 

رياشي تابعت لتذكر إنجازات أخرى منها إرساء أسس تطبيق مشروع إعادة هيكلة القطاع العام بالإشتراك مع مجلس الخدمة المدنية؛ العمل على اعتماد برنامج جديد لقياس وتقييم أداء القطاع العام بالاشتراك مع التفتيش المركزي؛ تأمين الاستمرار في إدارة مشروع معالجة النفايات المنزلية الصلبة لحين ضمّه إلى صلاحية وزارة البيئة؛ متابعة استضافة خوادم وزارة التنمية الإدارية لمعظم المواقع والتطبيقات الحكومية وتأمين التمويل اللازم لهذا الموضوع. هذا فضلاً عن إقرار عدة مشاريع أخرى تُعنى بتطوير الإدارة العامة ورقمنتها كما تأمين استمرارية الدعم التقني واللوجستي لها. جيّد، لكن هل نتفاجأ إن لم يكن معظم اللبنانيين على علم ببعض أو كل ما لفتت إليه الوزيرة؟ إلى نموذج آخر.

 

وزارات لا فائدة منها؟

 

«نجحت في إطلالاتي الإعلامية رغم ندرتها. واقعي وصريح، أطلّ على الصحافة المرئية والمكتوبة والمسموعة كلّما سنحت لي الفرصة. طروحاتي حاضرة دوماً في الإعلام رغم التقصير بحقّي في جلسات مجلس الوزراء من ناحية تأجيل مناقشة البنود المتعلّقة بوزارتي. أحدثت زيارتي إلى سوريا ضجّة كبيرة، كما تسبّبت ببلبلة حين انسحبت يوماً من إحدى جلسات مجلس الوزراء». لِمَن لم يستطع تحديد هويّة مطلق الكلام بعد، هكذا اختصر لـ»نداء الوطن» وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال، عصام شرف الدين، رحلته الوزارية مع الإعلام.

 

مقارنة مع وزراء آخرين، يوضح شرف الدين أن الابتعاد عن الإعلام لم يكن خياراً بل واقعاً فرضته عليه التصنيفات الوزارية التي تنعكس حكماً إعلامياً وصحافياً. «هناك وزارات سيادية وأخرى خدماتية إضافة إلى وزارات الفئة الثالثة التي تُعتبر مجرّد جائزة ترضية لم يعد بالإمكان إلغاؤها أو استبدالها، لذا تُركت لتكون مقعداً لطائفة أو لحزب معيّن على طاولة مجلس الوزراء»، كما يقول. الوزارات السيادية والخدماتية الأساسية تستقطب الأضواء الإعلامية بحكم عملها، في حين أن الوزارات الأخرى لم يعد لها دورها الفاعل على أرض الواقع، من وجهة نظره.

 

نسأل معاليه إن قام بمصارحة الناس بالحقيقة، فيجيب: «نعم، توجّهت أكثر من مرة إلى الرأي العام شارحاً نطاق حدود وزارتي، وبأن لا دور لها ولا فائدة منها. لم نقدّم شعارات بل ذهبنا إلى مجلس الوزراء طالبين تحويل الوزارة إلى وزارة تنمية ريفية». لكن العرقلات كانت أكبر من القدرة على تحقيق المطالب، إذ من مصلحة بعض الأطراف السياسية وأصحاب القرار إبقاء الوزارة على ما هي عليه. وهذا ليس بجديد على التركيبة اللبنانية مع تحويل كل ملف إصلاحي أو إنمائي إلى محطّ نزاع بين أطراف متعددة، والكلام لشرف الدين.

 

قد تتوجّه الأنظار، في حالات مماثلة، نحو الاستقالة، لكن لشرف الدين رأياً آخر: «وجود الوزير على طاولة مجلس الوزراء وفي ظل التركيبة الحالية للبلد ليس محصوراً فقط بالحقيبة الوزارية. لدينا دور وطني وطروحات مثل خطة التعافي وملف النازحين السوريين والخطة المالية للخلاص مما نحن فيه، وغيرها من الملفات التي تحتّم علينا الاستمرار. هذا إضافة إلى أن الوزير يمثّل فئة من الشعب وحزباً معيّناً، من هنا إنما تعني الاستقالة الدخول في دوّامة الميثاقية كون البلد مبنيّاً على التحالفات السياسية والحزبية الدقيقة. وهي أصبحت تُفسَّر من باب المزايدة ويُنظر إليها كتسجيل موقف شعبوي ليس أكثر».

 

وزارة المهجرين التي بات دورها شبه معدوم في ظل الانهيار المالي والاقتصادي – مع العلم أن دورها كان دوماً، بأزمة أو بدونها، مادة جدل واسع – لم تُتح أمام شرف الدين سوى إنجاز ملفات بسيطة ومتابعة أمور الناس بشكل جدّ متواضع نسبة للإمكانات المتوفّرة. ورغم ذلك، قدّم خططاً بديلة وطروحات تتعلّق بكثير من الملفات، يذكر منها: ضريبة التضامن، استعادة الأموال، الحلول الوطنية البديلة لخطة التعافي وحماية الودائع وحل مشكلة المصارف، كما موضوع تفعيل لجنة النازحين ومحاولة تحويل وزارته إلى وزارة تنمية. هنا أيضاً لا نعتقد أن ثمة كثيرين هم على دراية بجلّ ما ذُكر. لذا نشكر معاليه على الجهود والإضاءة وننتقل إلى حالة ثالثة.

 

بعيد عن الإعلام… قريب من الناس

 

وزارة الشباب والرياضة كانت وجهتنا الأخيرة. الوزير جورج كلّاس يخبرنا، في اتصال مع «نداء الوطن»، أن ابتعاده عن الإعلام جاء نتيجة خيار وقرار شخصي منه، باعتبار أن الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء، بحسب المادة 64 من الدستور، هو رئيسه، مع واجب الالتزام والتقيّد بالبيانات الدورية الصادرة عن جلسات مجلس الوزراء للاطّلاع على المعلومات. أما باقي المواقف الصادرة عن الوزراء، فهي تعبّر عن رأيهم ومواقفهم من قضايا تتعلق بهم مباشرة أو بأخرى وطنية، بحسب رأيه. لا بل كان معاليه أكثر صراحة، حين قال: «أنا فضّلت حصر إطلالاتي الإعلامية حيث تقتضي الحاجة. هناك قاعدة أساسية أتّبعها: عليّ أن أعرف، كسياسي وكمواطن، متى أكتب ومتى لا أكتب، متى أصرّح ومتى لا أصرّح. فاختيار التوقيت هو من أساسيات هذه القاعدة. إنها تقنيات أتّبعها في حياتي، رغم أن بعض الوزراء تحتّم عليهم وزاراتهم التكثيف من إطلالاتهم الإعلامية».

 

نسأل كلّاس عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في رسم معالم العلاقة بين المسؤول والمواطن، ويأتينا الرد واضحاً. وزارة الشباب والرياضة هي من أكثر الوزارات التي تشهد مناسبات من مهرجانات وفعاليات رياضية، كما يلفت مضيفاً: «المجال مفتوح للإطلالات مع كل مناسبة، لكن الإطلالة الإعلامية تفقد رصانتها إن لم تقترن باستراتيجية للكلام وبأخرى للغياب عن الساحة الإعلامية. وسائل التواصل الاجتماعي تتسبّب بتشويش واستدراج لبعض المسؤولين للإدلاء بتصاريح». الصمت هنا إذاً أقرب ما يكون إلى الاستراتيجية. فرغم ابتعاده عن الساحة الإعلامية إلّا أنه لم يغِب عن أي حدث يمس الناس وألمهم. يسعى دوماً لملاقاتهم عند منتصف الطريق لأنه يرى في نفسه المواطن السياسي وليس العكس: «أنا مواطن قبل أن أكون وزيراً، الوزير سيغادر أما صفة المواطن فستلازمني دائماً، لذا تجدوني مقلّاً في الكلام إنما حاضر في كل حدث وطني احتراماً لنفسي وللمواطن».

 

على كل موقف أن يصدر حصراً عن الوزير المختص ضمن حدود مسؤوليّته ونشاط وزارته، بالنسبة لكلّاس. فأن ندرك كيف نتعامل مع الإعلام ليس بالأمر السهل، فهو بالرغم من منافعه الكثيرة سلاح خطير إن أسيء استخدامه، ما يجعل الناس غير قادرة على التمييز بين الصح والخطأ وفهم الأشياء في إطارها الصحيح. وهذا يستوجب عدم اللجوء إلى استفزاز الزملاء الوزراء والالتزام بالتصريح حصراً عمّا ينال موافقة الجميع، من جهة، وعدم استرضاء الناس، من جهة ثانية، لما يترتّب عليه من فشل في العمل.

 

الوزارة لم تكن منتجة لسنة خلت نتيجة ظروف البلد المعاكسة، لكن جهود الوزراء السابقين على مدار 12 عاماً أثمرت مؤخّراً إقرار السياسة الشبابية، وهي استراتيجية الدولة تجاه مستقبل الشباب، ليس الرياضي فقط، إنما الحقّ في العمل السياسي وحمايتهم وحماية دورهم في المجتمع. يذكر كلّاس ذلك متحدّثاً بفخر عن «القيام بإقرار هذه السياسة الشبابية ضمن أعمال حكومتنا، رغم أننا كنا، للأسف، آخر دولة عربية تقرّها. لكن الخطوة لاقت الكثير من الاستحسان من قِبَل الدول العربية والاتحاد الأوروبي وكافة الدول التي تُعنى بالشأن الشبابي والإنمائي في العالم».

 

قد يكون ما سمعناه مقنعاً للبعض وغير مقنعٍ للبعض الآخر. لكن المتاهة التي ندور جميعاً داخلها قلبت معايير النجاح ومقاييس الفشل، بأقوال وأفعال أو بدونها، رأساً على عقب. فدون التقليل من قدر إنجازات تتحقّق هنا وهناك، العبرة تبقى في النتائج بالمعنى الأشمل للكلمة. والنتائج حيثما يمّمنا النظر لا تُسرّ.