بالرغم من أهمية الحوارات السياسية القائمة بين الخصوم، إلا أن الأحداث التي تدور كل يوم في شوارع المدينة والقطوع الذي يمرّ هنا أو هناك بانعكاسات محدودة يؤكّد نظرية أن السياسيين يأكلون الحصرم والمواطنين يضرسون.
وما حصل أمس الأول في مجمّع ABC بين مؤيّدين لعرض الفيلم التركي ومعارضين له.. إنما كان تكملة للفيلم اللبناني الطويل، الحافل بالإنقسامات والخلافات، حيث امتهن أبطاله الولاء للخارج، وأصبحت كل قضية خارجية هي قضيتهم الوطنية، ما عدا قضية بلدهم الحقيقية..
وتحوّل الصراع التركي – الأرمني التاريخي إلى شأن لبناني بامتياز، وحمل المسلمون العلم التركي والمسيحيون الراية الأرمنية، وتنازلوا في صفحات التواصل الإجتماعي ليُظهروا الصورة المُخزية للتعصّب اللبناني الأعمى، وقُدرة خارقة على لبننة الخلافات الخارجية واعتماد أدنى مستويات الحوار وأسفهها.. حيث يغلب الإنتماء إلى الطائفة على الإنتماء إلى الوطن في كل مناسبة!
لم تكفِ سنوات الحرب الخمس عشرة لتلقِّن اللبنانيين درساً في الوطنية.. ولا في تغيير إيديولوجيات الأحزاب حتى تُحوِّل خطابها الشعبوي من مذهبي وإتني إلى لبناني ووطني..
المسؤولية الكبرى في الدَرْك الذي وصل إليه تكمن بالخطاب السياسي في لبنان، ومستوى الشحن الطائفي، والجهوزية الغريبة عند الشباب لإشعال الفتن عند أول مناسبة، متخلّين عن حضارتهم وثقافتهم وحتى رشدهم الوطني!
إذاً هذه المسؤولية تقع على الأحزاب من جهة، التي لم تصل بعد إلى النضج السياسي، حتى تنقله إلى جمهورها عبر توعية وطنية، بدلاً من التعبئة المذهبية، وعلى الطبقة السياسية عامة، من جهة أخرى، التي تستمر في إعطاء نموذجاً سيّئاً في الديمقراطية المتحضّرة عبر الإسفاف والمنطق السياسي المتدني!
يختلف لبنان، ويتخلّف في معالجة القضايا الدولية عن سائر البلاد المتحضّرة، حتى في استضافته لمذاهب وإتنيات غريبة.. ففي كل بلاد العالم التي تستقبل وافدين ومهاجرين تفرض عليهم الإلتزام التام بقوانين البلد المُضيف، والولاء الكامل له، فيُعتبر أي مهاجر مسبّباً للخلل الأمني في سبيل نُصرة قضيته الإتنية، إرهابياً كما حكمت أوروبا على المسلمين، الذين تحرّكوا لنُصرة قضايا بلادهم، أو غير مرغوب بهم، كما حكمت دولاً عربية على لبنانيين مقيمين حافظوا على نشاطهم أو إنتمائهم الحزبي أو المذهبي في دول الإغتراب..
وحده لبنان، يسمح لأي وافد أو حتى عابر سبيل أن يعبّر عن فكره وانتمائه، وينصر قضايا بلده، بل ويثأر من خصومه على الأراضي اللبنانية، فيُستباح الأمن في الوطن الصغير، وتنتشر شريعة الغاب، وتحلّ المحسوبيات والإستثناءات، مكان القوانين الموحّدة والصارمة.. ولا حسيب ولا رقيب!
ما حدث أمس الأول في منتهى السخافة والخطورة في آن.. أن تُقرأ الشتائم والنعوت والتخوين الذي تقاذف بها اللبنانيون فيما بينهم على قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لكنت اعتقدت أنه خطاب بين أرمن وأتراك، وليس بين أبناء الوطن الواحد.. في حين ينام هؤلاء، أي الأرمن والأتراك، قريري العين، موقنين أن إخوانهم في لبنان سينتصرون لقضيتهم كما لن ينصروها هم أنفسهم..
إنها مرحلة مُظلمة، مُحبطة ومُعيبة في تاريخ جيل لم يعرف كيف يربّي نواة الغد، فإذا بالماضي يستعيد صوره وخطاباته دون أن يملك أحد القدرة أو حتى النيّة للخروج من الحلقة المُفرغة..
هنيئاً لتركيا، لأرمينيا، أميركا وفرنسا، وكل دول العالم دون استثناء، بأربعة ملايين نسمة مقسّمة بينهم، في خدمتهم لأقصى الحدود، مجنّدة لقضاياهم المجانية حتى الرمق الأخير!