المجموعات المسلحة التي تشكلت في جرود القلمون بعد تدمير القصير والبلدات الرئيسية الأخرى في هذه المنطقة المحاذية للحدود اللبنانية، المحددة في الخرائط لكن غير المرسمة ترابياً، هي مجموعات قسم منها جمع شتاته، مثل فصيل «لواء الغرباء» وغيره، في ما حمل تسمية «سرايا أهل الشام»، وقسم آخر دخل في بيعة «جبهة النصرة» (فتح الشام)، وجماعة بايعت أبو بكر البغدادي.
تختلف في كل واحدة من هذه الجماعات نسبة من كان في الاساس مجرد مواطن ليست الثورة لا على خاطره ولا على باله قبل اندلاعها، ولا يختلف نمط تدينه عن بيئته الأهلية في المناطق السورية القريبة من لبنان. لكن معظم من تحول في مجرى الصراع الى حمل السلاح ضمن أجندة كانت لا تزال تحمل لافتة «الجيش الحر» في هذه المناطق كان بالفعل كذلك قبل الثورة. مواطنون سوريون طرفيون يعانون الأمرين اقتصادياً وسياسياً من قبل النظام البعثي، ويتقاسمون مثلهم مثل الأعم الغالب من السوريين النظرة الى هذا النظام أنه بسمة طائفية أقلوية بالنسبة الى زمرته القيادية وأجهزته الأمنية، من دون أن يأملوا بنافذة تخرجهم من هذه العتمة، باستثناء الفسحة التي كان يوجدها قربهم الجغرافي من لبنان، وهم الى حد كبير متصلون بالبلد الجار اقتصادياً، سواء توجهاً للعمل فيه، أو ارتباطاً بسوقه التجارية، أو ارتباطاً بشبكات ترهيب كل شيء بين البلدين.
في مناطق أخرى من سوريا كانت هناك منذ عقود طويلة بيئات أهلية منها ما يتسم بتوجهه الاخواني ومنها ما يتسم بتوجهه السلفي رغم بطش النظام، وبعض من المناطق الأخيرة كان يصدر بالفعل مقاتلين الى العراق، للانضمام الى التنظيمات «الجهادية» المتطرفة فيه التي تشكلت في أثر الاحتلال الاميركي وسقوط النظام البعثي فيه والانتقال من نظام اضطهاد مذهبي وعرقي على أسس «قومية عربية» الى خلطة ديموقراطية انتخابية، واضطهاد مذهبي ثأري تحت شعار «اجتثاث البعث»، وبوابة مشرّعة للجمع بين تدخلين أجنبيين في وقت واحد، الاميركي والايراني. انتقل آلاف السوريين، والآلاف عبر سوريا، للقتال في العراق، بمعية المخابرات السورية، التي كثيراً ما وجهت لها الحكومات العراقية في تلك الفترة الاتهام، لها ولـ «حزب الله» اللبناني، بالتواطؤ مع هذه التنظيمات، التي سيتشكل منها «داعش» في مرحلة ثانية.
لم تكن هي الحال في مناطق القلمون الغربي المتاخمة للبنان، بل التي يمكن أن تعد لبنانية جغرافياً، في سلسلة لبنان الشرقية، أو لنقل لبنان الداخل. وبالمحصلة، فان من حمل السلاح ضد النظام وضد «حزب الله» المتدخل لصالح النظام في هذه المناطق كان أغلبهم من أولاد القرى، الذين كانوا يعيشون حياة ثقيلة لكن روتينية بالنسبة اليهم ولا يفكرون لا بالحرية ولا بالجهاد ولا باحياء الخلافة قبل انفجار أزمة النظام السوري ثم انفجار المجتمع السوري نفسه.
تختلف النسب في كل من التنظيمات القلمونية الغربية، لكنها تتشكل بالمجموع اما من مواطنين خرجوا للتظاهر ودفعهم تجذر الصراع الى حمل السلاح وحددت جهة التسليح وجهتهم التنظيمية، واما من مهربين ارتبطوا مطولاً بالطرق اللاشرعية بين لبنان وسوريا، وكانت علاقتهم «اشكالية» مع المخابرات السورية، فهي راعية قطاع الطرق وضابطتهم في الوقت نفسه في هذه المناطق. وهناك الذين تأدلجوا بالفعل، وقرأوا كراسات المكتبة الجهادية، وأخذوا على عاتقهم تصور أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي للعالم.
اندفعت هذه التنظيمات في القلمون الغربي لأمر في غاية السوء: أعلنت الحرب على الكيانية الوطنية اللبنانية الواقعة في أسر حزب من لبنان يفاخر بائتماره بأمر من الامبراطور الديني الايراني. اعتبرت أن «حزب الله» غزا أرضها، فيحق لها أن تغزو أرضه. اقترفت هنا الاثم الكبير: أعطت لهذا الحزب صكاً على الأرض اللبنانية بعد سنوات طويلة من كفاح اللبنانيين دفاعاً عن وطنيتهم الكيانية ودرءاً لها من المشروع الهيمني الذي يقوده الحزب. ان دل ذلك على شيء فعلى الغباء بالدرجة الاولى: عدم القدرة على فهم أن تحرر السوريين من تحرر اللبنانيين وبالعكس، لكن شرط هذين التحررين وتكاملهما هو ترسيخ الكيانيتين الوطنيتين، اللبنانية والسورية، وليس التخلي عنهما.
ليس لبنان وقفاً لـ «حزب الله» كي تبرر هذه التنظيمات الغزو في أرضه. في الوقت نفسه، لا يمكن أن تقوم الوطنية اللبنانية الصحيحة الا على التعقل، والتعقل هنا هو القدرة على فهم حيثية نشأة هذه التشكيلات المسلحة في القلمون الغربي، بدلاً من الاستلاب، على ما هو جار بابتذال شديد في الاعلام اليوم، بتصورات اسلاموفوبية هزلية حول وحوش ارهابية لا نعرف لماذا انتقلت من سوريا الى شرق لبنان.
أعطت هذه التنظيمات صكاً لـ «حزب الله» بمجرد أنها دخلت في أحابيل منطق «غزا أرضنا، نغزو أرضه». فهذه ليست أرضاً لحزب. انها أرض لبلد مجاور. بلد لم يستطع منع حزب مسلح من أبنائه من التدخل في سوريا، لكن قسماً واسعاً من أبنائه في حركة كفاح ضد النظام السوري وضد الخمينية المحلية قبل وقت طويل من الثورة السورية نفسها.
وما الذي يحصل اليوم؟ هناك من يريد أن يجعل من هذا الصك ميثاقاً جديداً. كما لو أن لبنان أرض تتنازل عنها «النصرة» الى «حزب الله»! الفكرة تبدو مجنونة، لكن هذا ما يحدث الآن بكل كاريكاتورية. الوطنية اللبنانية تستحق أفضل من هذا.