احترف اللبنانيون صناعة الأزمات على مدى عشرات السنوات مع تفوّق في إدارة عمليات الاستعطاء والإحاطة من الأشقاء والأصدقاء ومن ثم اقتسام المغانم المالية والسلطوية، واعتقد اللبنانيون بأن الآخرين أغبياء لا يعرفون ان اللبنانيين يعيشون على الشحادة والهبات مقابل التنازل عن سيادة بلادهم وتحويلها الى ساحة نزاع وصراعات وحروب وأزمات، واحترفت كل مكونات السلطة بدون استثناء هذه الحرفة الفتاكة بالبلاد والعباد، ومعظم الذين تنعموا بمغانم السلطة منذ الاستقلال حتى الآن لا تزال أيديهم ملطخة بالدماء، واعتقدت بعض مكونات السلطة الحالية بان الأصدقاء الدوليين والأشقاء العرب سيهرعون الى تقديم المساعدات لإنقاذ لبنان من أزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية، واستهان هؤلاء بالعبث بالمكونات الميثاقية والتوازنات الوطنية واعتبروها قضية عابرة مستندين الى ما سبق أن قاموا به مرات ومرات تحت راية لبنان الساحة البديلة لنزاعات المنطقة والعالم وتجاهل هؤلاء كل تلك الدماء والاغتيالات والأرواح التي أزهقت مع كل عملية تحويل لبنان الى حقل رماية للمحترفين والهواة.
تحاول مكونات السلطة أن تكثر من الكلام عن الإجراءات والتحديات وتكثر من الاستشارات والاجتماعات وتعتقد بأن عموم اللبنانيين لا يعرفون بأن السلطة لا تعرف كيف تقارب تلك الأزمات، ولا تعرف ما ينتظرنا من انهيارات موجعة مالية واقتصادية واجتماعية ستطال الكبار والصغار على حد سواء، وتحاول مكونات السلطة أن تتجاهل المضمون الحقيقي لدفتر الشروط الدولية على لبنان وان كلمة إصلاحات ليست بالضرورة تعني أن هناك أمورا صحيحة وأخرى تحتاج الى إصلاح، والحقيقة هي أن الشروط الدولية تقتضي ان نتحول من دولة ومجتمع نزاعات الى دولة الانتظام العام، وتعرف ايضا كل مكونات السلطة أن لبنان سيواجه موجات جديدة من الحراك والاعتراض وستكون اكثر حدة وعنف من موجة ١٧ تشرين الأول والتي أدت الى استقالة الحكومة السابقة، في حين ان المكونات السلطوية تتحضر بالاستثمار في الانهيار القادم لتحقيق مغانم من الأوضاع الكارثية على مستوى الدولة والمجتمع، وتحاول العودة بلبنان الى شعارات التقسيم وان لبنان خطأ تاريخي أو لبنان خطأ جغرافي، وتحاول تلك المكونات أن تجعل من لبنان ضحية على مائدة خارطة الأزمات الوجودية لسوريا والعراق وفلسطين.
يشهد لبنان حالة عريضة من النقاش السياسي والإعلامي حول الفيدرالية واللامركزية والخصوصيات المسيحية والإسلامية، وهناك الكثير من الآراء والكتابات تحاول أن تقارب هذه الموضوعات بإيجابية وموضوعية متجاهلين إجرام وحوش السلطة التي أكلت لبنان الحرية والانفتاح والتعددية، ولبنان الرسالة والمدرسة والجامعة والمستشفى، لبنان السياحة والمناخ والآثار التاريخية، لبنان المطبعة والكتاب والمسرح والغناء، لبنان شارع الحمراء وساحة الشهداء، لبنان اليمين واليسار، لبنان التغيير والتقدم والازدهار، ويتجاهل الكتّاب الأعزاء أن اصل المرض في لبنان هو في مشروعية ازدواجية الولاءات الخارجية على تنوعها وتناقضاتها وحروبها والتي قوضت استقرار لبنان، وينسى أصحاب الرأي والكتّاب الكبار أن التجربة الوطنية اللبنانية على مدى مئات الأعوام أصبحت هوية وطنية واحدة تتوارثها الأجيال وغير قابلة للتمزيق أو الاقتسام، وهذا ما عبّر عنه شابات وشباب لبنان في ساحات الوحدة والتغيير وبناء الدولة المدنية والتأكيد على الهوية الوطنية اللبنانية فقط.