نحتفل هذه الأيام بذكرى انطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية التي تفجرت بعد ساعات قليلة على احتلال الجيش الإسرائيلي (أو خلال الاجتياح نفسه) للعاصمة العربية الثانية بعد القدس، وبعد نيف وشهرين من اجتياح دموي تمكن عبره جيش العدو من دفع المقاومة الفلسطينية الى الخروج بالدموع (فلسطينية ولبنانية) من العاصمة اللبنانية الصامدة.
الاحتفال أيضا موصول بذكرى دحر الجيش الغازي الذي تحقق بعد أيام على اندلاع جذوة المقاومة الوطنية (في 15 أيلول أو 16 منه العام 1982 لا فرق) والذي للمناسبة غير مُحتفل رسميا به تماما كالانسحاب الأكبر من الجنوب العام 1985 ليستقر جيش الاحتلال في الشريط الحدودي الذي عاد وانسحب منه العام 2000، مع أنه شكل نقطة تحول ليس فقط لاندحار اسرائيلي عن أرض عربية بل ايضا للصراع العربي الإسرائيلي برمّته.
كانت تلك المقاومة فاتحة عهد انتفاضة بالسلاح وبالعصيان المدني لا سيما في الجنوب اللبناني، واختلطت فيها العقائد اليسارية والقومية السورية والعروبية والوطنية والبعثية والمحلية والإسلامية حتى استقرت على الأخيرة التي جاءت بالدفع العقائدي الجياش لهزيمة “الجيش الذي لا يقهر”، وصولاً إلى تكريس معادلة قوة لبنان بمقاومته وقوته وليس بضعفه كما كان الحال قبيل التحرير، ما أرسى بالتالي وما زال ميزان الردع القائم مع الإسرائيلي جنوباً.
على أن التاريخ سيبقى مُختلَفا عليه ليس فقط بالنسبة الى هوية المقاومة والمنتصر، بل للأسف، بالنسبة الى هوية العدو تبعا للطبيعة الطائفية اللبنانية المريضة.
مقاومة للداخل
وإذا كان الإنجاز الوطني تم بحرب تحرير شعبية احتضنتها بيئة المقاومة حتى من دون إجماع وطني عليها، فإن اللبنانيين أمام استحقاق مقاومة لا تقل أهمية عن تلك العسكرية وهي المقاومة المدنية لتحرير الداخل ليصبح لبنان دولة قادرة وحديثة متمكنة من المواجهة بنظام منيع وديموقراطي.
ولعل هذه المقاومة المقصودة أكثر صعوبة من المقاومة العسكرية التي يمتثل الهدف أمامها ويستقر مشهد صراعها على طرفي النزاع. ذلك أن المقاومة المدنية ستُعنى أول ما تُعنى بإصلاح النظام اللبناني برمته وضرب طائفيته ومكامن الفساد فيه وصولاً الى تمدينه ومن ثم حماية مكتسباته على طريق شائك جدا وطويل لا سبيل لنهوض الكيان (وليس الوطن) اللبناني من دونه.
فالهزائم العربية الماضية لم تكن هزائم عسكرية فقط، بل كانت هزائم حضارية وكان من الطبيعي أن تنهزم بلدان متخلفة التكوين في صراع عسكري غير متكافىء.
الحركة الوطنية وفخ الحرب
على أن فرص اللبنانيين في سبيل نظام عصري أتيحت أمامهم أكثر من مرة للثورة على النظام الطائفي اللبناني. فخلال إرهاصات الحرب الاهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي حاولت الحركة الوطنية يسارية الطابع، عبر برنامجها المرحلي، تحقيق تغيير دراماتيكي في النظام عبر الحسم العسكري بمساعدة الفلسطينيين بالسلاح وبالمد البشري.
لكن التغيير المنشود لتمدين النظام اللبناني إصطدم بموازين القوى وتم ضربه بقوة عبر شبه إجماع عربي دولي وبعصا سورية، وقد شكلت الاستعانة بالفلسطيني وعسكرة التغيير خطأ كبيراً ووقوعاً في الفخ المنصوب لتفجير الحرب الأهلية التي كانت تستند طبعا الى عامل داخلي بالغ الأهمية وهو الحرمان الاجتماعي والسياسي لقسم وازن من اللبنانيين.
حماية الطائف أولوية
لكن بعد نحو 16 عاماً من الحرب الاهلية، مثُلت الفرصة الثانية أمام اللبنانيين في إتفاق الطائف (وقبله الإتفاق الثلاثي المُجهض العام 1986).
صحيح أن هذا الاتفاق ليس مثاليا وفيه من الشوائب ومن الغموض الكثير، سواء تعمد صائغوه ذلك أم أنها النية الحسنة خلال صياغة اي دستور جديد من قبل صانعيه، الا أن الطائف توصل الى وضع حد لحرب عبثية طائفية ولسيل من الدماء والتهجير ومن القتلى والمعوقين والمفقودين الذين ما زالت عوائلهم تصرخ في سبيل مصائرهم أو حتى رفاتهم أو لمجرد معلومات عنهم..
لقد حفظ الطائف وحدة الكيان ونصّ على ان الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية، وحسم انقسام اللبنانيين حول طبيعة العدو والشقيق.
لكن زاد سوء تطبيق الاتفاق وانتقائيته من أزمات اللبنانيين مع أن الاتفاق قارب المعضلة الكبرى للبنانيين ألا وهي الطائفية السياسية. وقد نص على إلغائها كهدف وطني لكن على مراحل على أن تكون المهمة ملقاة على المجلس النيابي لتشكيل الهيئة الوطنية لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ تلك الخطة، على أن تكون الهيئة برئاسة رئيس الجمهورية وتضم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء إلى شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
وذهب الطائف إلى طلب إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني. وهنا استثنى الطائف عن عمد وعن واقعية وظائف الفئة الاولى وما يعادل تلك الفئة لكي تكون تلك الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.
وبذلك كان مؤملا انعتاق التمثيل النيابي عن الطائفية التي تنتقل الى مجلس للشيوخ وذلك بعد ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، ومع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تُمثل فيه العائلات الروحية كافة لكن صلاحياته تنحصر في القضايا المصيرية.
كما دعا الطائف إلى لامركزية ادارية تُركت هي الأخرى عن عمد من دون تفصيل حول الموضوع المثير للجدل أخيرا المتعلق بمالية تلك المركزية، بين من قال إن الطائف لم يذكرها وبين من حسم بقصد ذلك بمجرد ذكر اللامركزية كون لا معنى لها من دون ماليتها.
ليس القصد هنا الغوص في طبيعة الإتفاق الذي يبقى خيراً من حرب ضروس، إلا أن المشكلة تمثلت في أن تطبيقه لم يكن ثورياً بل تم الاصلاح من داخل التركيبة الطائفية، مع علم الجميع بأن إلغاء الطائفية السياسية سيبقى هدفا شبه مستحيل التطبيق. فكان أن انتزع الطائف صلاحيات من رئيس الجمهورية الماروني لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً، وهو بذلك كرس الطائفية عرفاً لا مناص منه..
اليوم تتمثل المهمة الاساس بحماية هذا الاتفاق وحسن تطبيقه وعدم اللعب بتوازناته الدقيقة لناحيتين: عدم تحميله ما لم ينصه صائغوه من ناحية كما جرى في السنوات الأخيرة، وعدم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل الطائف عبر طروحات تقسيمية تتخذ لبوس الفيدارلية المالية.
الانتفاضات الشعبية كسرت الهيبة
على أن الفرصة الثالثة التي أضاعها اللبنانيون ظهرت عبر الانتفاضات الشعبية المتتالية منذ انتفاضة النفايات في العام 2015 ثم في 17 تشرين 2019 (خاصة في مرحلتها الأولى..).
حُكي الكثير عن تلك الانتفاضات ولا مجال لذكر أسباب إخفاقها، وهي ضُربت من المنظومة الحاكمة التي اجتمعت على مواجهتها، كما من داخلها مع ولوج عناصر غير مؤمنة بها وعناصر أخرى موالية للخارج، والنتيجة كانت أن البلد بات خارج أي تحديث وإصلاح.
لكن في المقابل فإن هذه الانتفاضات الشارعية ضربت هيبة السلطة وأحيت أملاً كبيرا للمستقبل ونقلت، وسط انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، الصراع بين السلطة والشعب الى مرحلة جديدة ستكون حبلى بالكثير من الفرص المقبلة.
وبما أن الهدف يبقى في تحويل الألم الى أمل، ربما تُشكل الأزمة الكبرى الحالية اقتصاديا ومعيشيا وهي الأعمق منذ ما قبل نشوء هذا الكيان اللبناني الهش، فرصة جديدة للبنانيين للإتحاد لإنقاذ ما أمكن قبل غرق السفينة بالجميع.
نضال مرحلي
ومع الاستناد الى الفرص المهدورة الماضية، يمكن للبنانيين إطلاق نضالهم المرحلي السياسي المدني بالوسائل السلمية والدستورية في موازاة الضغط الشعبي المشروع، لتحديث البلاد وعصرنتها وإنجاز النقلة المرجوة نحو بلد حضاري يمتلك عناصر مناعته في وجه العدو وكل هجمة خارجية، طبعاً في موازاة عناصر قوته الشرعية.
لا شك أن المسار طويل جداً ويتطلب أجيالاً مصممة، لكن لا حل لهذا البلد الكئيب سوى بالنضال السلمي والشارعي ضد الطبقة الحاكمة واعتماد الأصول الدستورية في التغيير عبر التمثيل الشعبي والقضم المتصاعد من المكتسبات اللاشرعية للسلطة لإضعافها على مراحل بالتزامن مع حماية الدستور وعدم المس به.
إنها دعوة لمقاومة من الداخل ضد كل ما كرهه اللبنانيون في السنوات الماضية ولصالح كل ما يريده هؤلاء من عيش كريم ووقف لنزيف المال والهجرة. دعوة للتحديث وللعصرنة ومن دونهما لن تكون مناعة داخلية ولن يكون انتصار كامل على أي عدو وطامع.