لم تعد الأزمة متعلقة بعدم القدرة على تشكيل حكومة قادرة على التعاطي مع الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية، بقدر ما أصبحت مشكلة الشلل الذي يُعاني منه الحكم، والغيبوبة القاتلة التي سقطت فيها الدولة والسلطة العاجزة عن التصدي لأبسط مسببات المحن التي يتخبط فيها البلد، والتي وصلت إلى حد الإنفجار الشعبي، وإندلاع ثورة الجياع، بعدما إنهارت كل الآمال التي علقها اللبنانيون على مبادرات الإنقاذ، وخاصة مبادرتي الرئيس الفرنسي ماكرون والبطريرك الراعي.
هي ليست أزمة حكم، كما يحلو للبعض أن يُسميها، بقدر ما هي سوء إدارة قواعد الحكم وموازينه الدقيقة، والضرب بعرض الحائط بالأصول الدستورية، والإمعان في التسلط على مواقع القرار، والإستئثار بالسيطرة على مقدرات البلد، تارة بحجة العهد القوي والرئيس القوي، وتارات أخرى تحت شعار إستعادة الصلاحيات والدفاع عن حقوق المسيحيين!
سوء إدارة الحكم تجلت بأبرز صورها، عند رفض فريق العهد المبادرة الوطنية والإنقاذية التي أطلقها سيد بكركي لتقريب وجهات النظر بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، وتسريع خطوات الولادة الحكومية. والطريف في الأمر أن الرفض جاء تحت عنوان الدفاع عن حق رئيس الجمهورية في تسمية الوزراء المسيحيين، وكأن الجماعة هم أحرص من البطريرك الماروني على صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى حقوق المسيحيين.
الدولار بدأ رحلة الخمسة عشر ألف ليرة، بعد تجاوزه عتبة العشرة آلاف، والناس تتشابك على كيس حليب أو زجاجة زيت في السوبرماركت، والعتمة تكاد تطبق على البلد من أقصاه إلى أقصاه، ولقاحات الكورونا تُفتقد وتختفي، وطوابير المواطنين ينتظرون التلقيح الذي لا يحضر بكميات كافية، والإفلاسات تتزايد في مختلف القطاعات التجارية والصناعية، والتحقيق في إنفجار المرفأ يدور في حلقة مفرغة، والناس في الشارع يقطعون الطرقات، ويلعنون الحكام، وهؤلاء في أبراجهم العاجية لا يسمعون ولا يفقهون مخاطر ما وصلت إليه أوضاع البلاد والعباد!
مقابل هذا الإنهيار الداخلي المريع، تشتد الضغوط الخارجية على الوضع اللبناني، وتُفاقم من تدهور أوضاعه، بعدما تحول لبنان إلى مجرد ورقة بيد المحور الإيراني في المفاوضات المرتقبة مع واشنطن والأوروبيين حول الملف النووي الإيراني.
ومن البديهي القول ان الوضع اللبناني المنهار لا يعني واشنطن وطهران، وليستا على عجل من أمرهما لفتح ابواب المعالجات الإنقاذية لوطن الأرز، الذي تحول مرة أخرى إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الفيَلة التي لا ترحم أقدامها أجساد الضحايا التي تدوس عليها، دون شفقة أو رحمة.
هل يعني ذلك أن لا حكومة قبل الإتفاق على صيغة الإتفاق النووي الجديد مع طهران؟
وهل يستطيع الوضع اللبناني المتدهور البقاء على قيد الحياة حتى إنهاء المفاوضات النووية مع إيران؟
طالما أن المسؤولين اللبنانيين أضاعوا فرصة المبادرة الفرنسية، وأمعنوا في تفريخ الخلافات الشخصية والأنانية بينهم، مَن سيُقدم في الخارج على تخفيف أعباء الكوارث الراهنة على البلد المنكوب؟
طالما أن أهل الحكم لم يحاولوا مساعدة بلدهم وتقديم التضحيات اللازمة للخروج من دوامة الأزمات الحالية، فمن الطبيعي أن تدير الأطراف الخارجية ظهرها للبلد إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
في ظل هذا الواقع المأساوي، وإستمرار هذا العجز والفشل الفاضحين لأهل الحكم في إدارة الأزمة المستفحلة، لا تبدو في الأفق بشائر حل قريب لهذا الانهيار المريع، الأمر الذي من شأنه أن يُضاعف معاناة هذا الشعب المعذب، والمنكوب بهذه المنظومة السياسية الحاكمة.
وكان الله بعون اللبنانيين!