يتمّ الخلط، عن قصد أو عن غير قصد، بين المفهوم العام للوطنية، وبين مفهوم الوطنية الخاص بلبنان، إذ تتغافل بعض الاطراف العقائدية اللبنانية، المُرتبطة بالمشاريع الاستراتيجية، عن المعنى الحقيقي الذي يحمله الالتزام بوطن الارز، اي بإرثه الغني بالحرّيات، وبنشأته العاكسة للتوازنات، وبرسالته الانسانية، وبشبكات علاقاته الممتدّة الى اقاصي العالم، وبطبيعة عيش شعبه المرتكزة على الحرّيات التي أغنت لبنان وميّزته عن كافة الدول الحديدية المجاورة له، المتهاوية الواحدة تلو الاخرى. وهذا التغافل المقصود، هدفياً وعقائدياً، والحاصل على الإدراك لأطرافٍ سياسية اخرى لخطورة تحالفاتهم المرحلية معه، والمترافق ايضاً مع تخاذل اطرافٍ اخرى في تسوياتهم معه، يعرّض هذا البلد الحسّاس بتركيبته، الى الزوال.
إن مسألة الخلط هذه تندرج من ضمن المحاولات الهادفة لتغيير النظام التوازني بين الفئات المكوّنة للوطن، بجمع الاضداد في رؤية واحدة، تؤسّس لذهنية إلغائية، وغلبة لفريقٍ على الآخرين، مقتنصاً الفرصة الاقليمية المؤاتية له. وهذا هو السبب الحقيقي الذي قد يحوّل الوضع الوطني الطبيعي الى أوضاعٍ متفجّرة، حيث تصبح الفئات المتعاونة والمتحالفة والمتنافسة، أعداء متقاتلين، مدمّرين لبعضهم البعض، وللوطن على سواء، فينقلب الوضع في لبنان الى مسار الحروب والمآسي والخسارات المتبادلة.
بالطبع، يُضاف الى هذا السبب، اسباب اخرى متفرّعة عنه، لا يقلّ خطر تأثيرها السلبي على الوطن، وهي ضعف الادارة، والفساد السياسي الزبائني، والتبعية القبلية العمياء، والإفتقار للرؤية المؤسساتية. وإن كانت فترات الازدهار والاستقرار في لبنان قصيرة، لكنها تدلّ على قدرة هذه التركيبة اللبنانية الخاصة، على إبتداع المعجزات، عند تسليم كافة الفئات اللبنانية الاساسية باحترام المفهوم اللبناني النابع من طبيعة العلاقات المتوازنة، والمُثبّت في الدستور. وفي كل مرّةٍ تفجّر فيه الوضع الاهلي اللبناني، كان نتيجة مراهناتٍ لاحد الافرقاء الداخليين المكوّنين للمجتمع اللبناني، على مشاريع خارجية خاصة بانتمائه العقائدي او الفكري او الفئوي، فذهب الى تخوين الآخرين الرافضين لمغامراته، وتخلّى عن استمرار العقد الوطني، وارتضى التضحية بالاستقرار.
إنّ اتفاق اللبنانيين عند نشأة بلدهم على التوجّه الحيادي، بلا شرق ولا غرب، لم يكن إتفاقاً ورقياً وشكلياً، عابراً ومرحلياً، بل وعياً وطنياً إرثياً، صادراً عن مفكّرين كبار، ضنينين بالرسالة اللبنانية للإنسانية، وعلى عيش ونقاش الحضارات، وليس على صراع الحضارات، التي تلقّفها السينودس من اجل لبنان لاحقاً، ونشرها دولياً من اجل التجانس الانساني ونبذ التطرّف.
إذاً، فمن يُطلق شعارات تُخالف هذا التوجّه وهذا العيش المشترك، الدستوري، وهذه القناعة باستمرار التوازنات، ويُدافع عن طروحاته برمي ذلك على حقّ الاكثرية بالتغيير، وحقّه بفرض خياراته على الساحات الوطنية، بلحظة فائض قوة، فهو المتّهم بالطعن بالدستور، وبأخذ البلاد الى النزاعات.
الشكوك تكثر بهؤلاء الافرقاء، الذين يستمدّون قوّتهم من المشاريع الاقليمية التوسّعية، من اجل ضرب معالم لبنان ونقله الى وطنٍ آخر، والنيات واضحة من خلال التعدّيات اليومية على السيادة، ومن خلال رفض الاصلاحات الكفيلة بإنهاء الزبائنية والتبعية والسلطة المتسلّطة، ومن خلال رفض الانتخابات المبكرة التي تُعيد القرار لمصدر القرار، أي الشعب، وهؤلاء الافرقاء أفشلوا على مدى السنوات الماضية جميع المشاريع الصادقة لتحويل الدولة اللبنانية الى دولة عميقة، بمؤسساتٍ قوية، ودمّروا المواطنية الصحيحة، وأتْبعوا لبنان لسيطرة انظمة اعلنت لمرّاتٍ ومرّات، احتلالها للقرارات الوطنية لعدّة بلدان عربية.
امام كل ذلك، يأتي التساؤل التالي، هل الوطنية هي انتماء مرحلي؟؟؟ وهل من يعطي الغطاء للمرحليين، في انتمائهم للوطنية اللبنانية، حقاً وطنيون؟؟؟