بعض العاملين في الشأن السياسي العام في لبنان والمتنطّحين للريادة والسيادة، والباحثين عن أدوار تضعهم في خانة الاستثناء والتميّز، هم في بداية السعي وخواتيمه أوّل أعداء أنفسهم! وأكثر الفاتكين بأحلامهم وطموحاتهم الوردية! وأشرس المتدخّلين الساعين إلى فركشة تلك الأحلام والطموحات!
ومن هؤلاء مَن لا يستدعي جهداً خارجياً مضاداً أو منافساً، طارئاً أو استنفارياً من أجل صدّه ووضعه عند حدّه وتخفيف غلوائه الذاتي، و”تنويره” إلى الضرورات الحاسمات للفصل بين أهوائه والواقع المقيم.. باعتبار أنه هو، بنفسه الأمّارة بالتذاكي وليس بالذكاء وبالتشاطر وليس بالشطارة وبالإدّعاء وليس بالوعاء، يفتح بأدائه طرقاً سهلة “لاصطياده”! وتكسير بنيانه وإظهار خشبيّته التامة، وهو الملطوع بفكرة أن ذلك البنيان مدرّع بالحديد الذي لا يصدأ وبالفولاذ الذي لا ينطعج وبالنار التي لا تخمد!
هذا النوع استثنائي في الحياة السياسية العامة عندنا ومن حيث المبدأ! ويمكن بسلاسة تنظيرية هفهافة نفنافة اعتباره مثالاً درسياً لا بأس بجودته وصدقيته، لسردية الانتحار السياسي، الذاتي الدفع والزخم والتلقائية! وهذا النوع من الطموحين الفالحين، يتماهى مع ذاته حتى ينفخها أكثر من اللزوم ولا يعود تبعاً لذلك الانتفاخ يرى الأمور مثلما هي على الأرض! ويأخذه الشطط بعيداً في تبريراته وفذلكاته حتى ينسى تماماً أحد المبادئ الماسيّة الخالدة القائلة، بأن البدايات الغلط تُوصل إلى النهايات الأكثر غلطاً! وأن الإمعان في الذاتية لا يناسب الاجتماع السياسي الأشمل المليء بدوره بذاتيات خاصة وعامة في بلد مثل لبنان شديد التنوع والانفتاح والتفلّت والتعدّد والانتماءات والاصطفافات والهويّات، ومشهور بعصيانه على القولبة الخارجة من ادعاءات ريادية خلاصية ناجزة وتامّة ولا تقبل احتمال الجدال الذي يستبطن احتمال الخطأ إلى جانب الصواب!
وهذا النوع من الطامحين الجموحين يتشاطر في التكتكة لكنه “شاطر” في الفشل “الاستراتيجي”! أي كأنه لا ينتبه، وربما غير قادر على ذلك، إلى أن مراكمة بعض النقاط في وجه “أخصامه” وعلى طريق طموحاته لا تعني ربح الجولة الأخيرة الحاسمة! ولا تعني “الوصول”. ولا تثبيت الزعامة! وأن هذه الدنيا دوّارة في أصلها وفصلها فكيف حالها في لبنان وهي التي تدوّخ ولا تكفّ عن تقديم المثال تلوَ الآخر على عبثية السقوط في ذروة الصعود! والنكوص إلى الخلف في لحظة الوقوف في مقدّم الصفوف! وعند قامات وهامات وأسماء عجنتها التجارب والمرارات والتضحيات والمواجهات وصقلت أحلى ما فيها من خصال، ومع ذلك وبرغم منه “مرّت في التجربة” وغابت بعيداً.
إدّعاء التمايز الطهراني، والإكثار من العلك بذلك الادعاء لا يحيله إلى “حقيقة” لها تتمّاتها الأكيدة في بيئة مفضوحة ومفتوحة على الآخر! وكل مَن فيها يعرف كل ما في غيره! وبالتفصيل الممل! والثبات على ذلك الادّعاء لا يثبّت سوى العكس “الحقيقي” الكافي في كل حال، لتكريس الحكم الأكيد بالضرورة الحاسمة للجم المدّعي! و”مساعدته” على رؤية نفسه من دون رتوش وأوهام! وثنيه في الخلاصة عن سعيه المحموم إلى تدمير ذاته تحت عنوان إكمال بناء تلك الذات! والواجب “الوطني”، عدا عن “الإنساني” في هذا المقام يستدعي حمل ذلك الهمّ على محمل الجد طالما أن التداعيات شاملة وليست خاصة! وطالما أن أضرار تلك “الحالة الشخصية” لا تقف عند حدودها وحدها ولا عند ذاتياتها الطافحة!
من يبدأ “مشواره” بفتح المشاكل في كل اتجاه لن يصل إلى أي مكان، وإن خطا بعض الخطوات! ومن يستند إلى لحظة عابرة لبناء حيثية دائمة سيكتشف أن بنيانه مثل عامود الملح! وأساساته رملية!
.. ولبنان في كل حال، وعلى ما يقول الثقات العالمون العارفون بالظواهر والبواطن، لم يعد عنده أي فائض من الترف الذي يجعله قادراً على تحمّل أوزار “تجربة إنقاذية” أخرى!