كطائرة تدور حول نفسها منتظرة اشارة تسمح لها بالهبوط، كذلك يدور البلد حول نفسه. منذ أكثر من عام، ان قيس الأمر بالشغور في سدّة الرئاسة، ومنذ أكثر من عامين، ان قيس الأمر بالاحتكام الى الناخبين، ومنذ أكثر من ذلك بكثير ان قيس الأمر بازدهار آليات تعطيل وتفريغ كل من السلطات الثلاث فيه، ناهيك عن آليات تعطيل مؤسسات الدولة بشكل عام.
لكن العجيب الغريب في الموضوع، ان وقود هذه الطائرة التي تحوم حول نفسها لم يستنفد بعد، وثمّة، رغم أجواء القلق التي تنتشي لسبب أو من غير سبب حيناً، قناعة خفية، سحرية نوعاً ما، أو قل مراهنة مزمنة، بأن وقود هذه الطائرة لن ينضب، مثلما هو الدوران في الحلقة المفرغة لن يتوقف، كما لو أن هذا الدوران حول النقطة الفارغة، يمدّ هذه الطائرة بطاقة للاستمرار في الدوران، بلا كلل، لكن أيضاً بلا طائل.
لكن الطريف في هذا المشهد الاقتراحات التي لا متن لها في أي تصوّر دستوريّ من أي نوع، والتي تستقدم بين الفينة والفينة لتجبر كل الناس على النقاش حولها، ثم يأتي مقترح جديد، وتشنّج جديد حوله.
مؤخراً، ظهر اقتراح معالجة أزمة الشغور الرئاسي باستطلاع رأي الناخبين المسيحيين. هذا مباشرة بعد أن تابع اللبنانيون كسواهم على هذا الكوكب أزمة استطلاعات الرأي التي كانت مراصدها تتوقع نتائج مختلفة تماماً في بريطانيا وسواها.
في الوقت نفسه، ينبغي أخذ هكذا اقتراح في ضوء النية التي يطرحها من يتبناها. هو اقتراح لمعالجة مشكلة الطائرة اللبنانية التي تدور حول نفسها بلا انقطاع منذ مدة غير قصيرة، ومشكل محموم ومهدّد وقوده بنفاد الكمية منذ الشغور الرئاسي. اقتراح الاستطلاع تزيين جديد لفكرة قديمة، وهي ان الاكثر شعبية في طائفته ينبغي ان يتولى الرئاسة التي من نصيبه في العقد السياسي اللبناني. والمفارقة ان من يشدّد على هذا الرأي، وهو في نهاية الأمر رأي له أن يناقش بالروية، لا يقوم بأي جهد للاجابة عن كمّ الأسئلة التي تستتبع الأخذ، فرضاً، برأيه. فماذا يحصل كلّما تبدّلت نتائج استطلاعات الرأي، أم أنها حكماً لن تتبدّل، وهل يمكن تأمين قاعدة التداول في الموقع الرئاسي ان كانت قاعدة الاختيار هو الاكثر شعبية ضمن المسيحيين؟ أم في هذه الحالة الرئيس الأكثر شعبية سيقوم بعد انقضاء ولايته بالتجديد لنفسه، ما دام الأكثر شعبية، أو أنه سيحترم مدة الولاية، لكنه سيعتبر انه المرجع الذي يعين خلفه؟ هذا قبل الدخول في مستتبعات الاحالة الشعبية، على توازنات النظام الديموقراطي البرلماني، وماذا يبقى من مبدأ الفصل بين السلطات؟ فلو كان المبدأ الساري هو ان الاكثر شعبية في طائفته يتولى لزاماً منصبها في الدولة، لصار رئيس الجمهورية الماروني أيضاً رئيساً للبرلمان والحكومة في شقهما المسيحي، وصار رئيس مجلس النواب رئيساً للجمهورية والحكومة في شقها الشيعي، وصار رئيس الحكومة رئيساً للجمهورية والبرلمان في الشق السني. فلا بأس، نولد هكذا صيغة فريدة، ولكن كيف لها ان تستمر؟
الطائرة ستدور حول نفسها. اقتراح الاستطلاع دورة من هذه الدورات. ايام وتنقضي. ندخل في دورة اخرى. معزوفة اخرى. يذهب بعضنا الى تفسير التعطيل والفراغ والمراوحة بمسائل الاقليم حصراً. يذهب البعض الآخر لشخصنة كل تفسير. وفي الحالتين، يتأجل التفكير في مشكلة العقد الاجتماعي المندثر او الغائب بين اللبنانيين، والذي يجعلهم حين لا يتصادمون مع بعض يدورون حول أنفسهم، ويجعل البلد في دورة متواصلة حول نفسه.
ومن قبيل الدوران في الحلقة المفرغة سؤال «أي رئيس نريد» كما لو كان يمكن أن يطرح بمعزل عن طبيعة المنصب الذي يفترض به أن يتولاه، منصب رئاسة الجمهورية، في نظام برلماني بالدرجة الأولى.