مشكلة حراك العسكريين المتقاعدين مزدوجة. فهي، بالدرجة الأولى مشكلة تقاعد غيرهم عن الحراك.
بعد أن استعادت الحركة المطلبية بعضاً من حيويتها الميدانية في فترة 2012-2013 مع “هيئة التنسيق النقابية”، بما لها وما عليها، عادت هذه الحركة فضمرت. ومجموعات “المجتمع المدني” التي طرحت نفسها بديلاً احتجاجياً “عصرياً” في صيف 2015، وقت أزمة النفايات -وهي أزمة أبعد من أن تكون قد أصبحت وراءنا- عادت وانكفأت بشكل أو بآخر، مع استثناء بارز شكّله التظاهر، بعناوين مدنية وشعبية وحزبية مختلفة، ضد الإجراءات الضريبية في آذار 2017.
ليس تفصيلاً أبداً اليوم، أن يكون نظراء “السترات الصفر” الفرنسيون هم ضباط سابقون، وفي الأمر -لهواة المقارنات التاريخية- ما يذكر بالحركة البولانجية، نسبة إلى الجنرال المتقاعد جورج بولانجي، في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا، عندما مثّلت الموجة الإحتجاجية الشعبوية المتفيئة بظاهرته إطاراً تجميعياً لأخصام من مشارب مختلفة لـ”الجمهورية الثالثة”.
الفارق أنّ حراك العسكريين المتقاعدين الحالي يتضمّن “كذا بولانجي”، لا واحداً، وأنّه غير متمدّد إلى فئات أخرى من الشعب تخرج لنصرة العسكريين المتقاعدين، وأنّ “الجمهورية الثانية” عندنا، دخلت منذ العام 1998 في عهد “الرؤساء العسكريين المتقاعدين” وقد لا تخرج منه. نظامنا السياسيّ برمّته له نكهة “عسكرية متقاعدة”.
وما دامت الحال كهذه، والقسمة بين “مدنيين وعسكريين” ليست بهذا الوضوح في المجتمع اللبناني، حصل أنّ العسكريين المتقاعدين برزوا في تحرّكهم الإحتجاجي كـ”مدنيين وعسكريين” في آن، أي بمعنى من المعاني كـ”غير متقاعدين”. في لحظة تحسبهم جماعة “أناركية” تناضل من أجل مجتمع مدار ذاتياً بلا دولة. وفي لحظة أخرى، يصير تحرّكهم هو “الدولة الفعلية”، والحكومة التي تظلمهم وقوى الأمن التي تواجههم، بمثابة “متمرّدين على الشرعية”.
منذ سنوات طويلة يتداخل تصوّران اختزاليان لطبيعة الأزمة، أزمة الإقتصاد والنظام السياسي. التصوّر الأوّل أنّه ثمّة “شعب” تقابله “طبقة سياسية”، والتصوّر المقابل أنّه ثمّة “عسكر وحرامية”. إلى هذا التصوّر الأخير يميل المتقاعدون، لكنهم ليسوا لوحدهم. إنّه تصوّر مزمن، وتسبب بمشكلات مزمنة. وهو عاجز قبل كل شيء عن إدراك أنّ القطاعات الوظيفية المختلفة لها مصالح مختلفة، وأنّ غير الموظفين في أجهزة الدولة ليست مصالحهم هي نفسها مصالح الموظفين في أجهزتها، أو المتقاعدين منها، وأنّ دولة مركزية بقطاع عام منتفخ ليست الحل بل “المشكلة”، فكيف إذا كانت هذه الدولة المركزية تتظاهر ضدّ نفسها؟