IMLebanon

إلى متى رهن لبنان بمشاريع خارجية؟

 

 

لطالما كان لبنان ساحة صراع جيوسياسي بين قوى إقليمية ودولية، حيث يجد نفسه مرهوناً بمشاريع خارجية، ما جعله يعاني من توترات سياسية وانقسامات داخلية أثّرت بشكل كبير على استقراره ووحدة أراضيه. منذ إعلان دولة لبنان الكبير في عشرينيات القرن الماضي، وهو يتأرجح بين طموحات القوى الخارجية وتدخلاتها، وهو ما أثقل كاهله سياسياً واقتصادياً. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بات لبنان بحاجة إلى استقلالية قراره السياسي بعيداً عن التأثيرات الخارجية، حفاظاً على وحدة أراضيه واستقراره الوطني.

تاريخ من التدخّلات الخارجية

منذ تأسيسه في عام 1920، مرَّ لبنان بفترات متعاقبة من التدخلات الخارجية التي أملتها الظروف السياسية الإقليمية والدولية. كانت فرنسا هي القوة الاستعمارية الرئيسية التي وضعت اللبنات الأولى للدولة اللبنانية الحديثة، ولكنها في الوقت ذاته تركت ورائها نظاماً سياسياً هشّاً يعتمد على التوازن الطائفي الدقيق، ما جعل لبنان عرضة للتدخلات الأجنبية. كان هذا النظام الذي يعتمد على تقاسم السلطة بين الطوائف المختلفة سبباً في هشاشة الاستقرار الداخلي، حيث بات من السهل على القوى الخارجية التأثير على الساحة السياسية الداخلية.

الحرب الأهلية اللبنانية

اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) كأحد أبرز الأمثلة على التبعية السياسية للخارج. خلال هذه الفترة، كانت الساحة اللبنانية تعجُّ بالقوى الإقليمية والدولية التي استخدمت أطرافاً لبنانية كأدوات لخدمة مصالحها. انتهت الحرب الأهلية بتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، إلّا أن التدخلات الخارجية لم تنتهِ، وظل لبنان ساحة صراع بين مصالح قوى إقليمية ودولية.

التأثير السوري والإيراني

بعد انتهاء الحرب الأهلية، فرضت سوريا هيمنتها على لبنان من خلال تواجد عسكري واسع وتحكّمها في القرار السياسي اللبناني. وذلك عقب دخول سوريا في التحالف الدولي ضد العراق بعد غزوه للكويت، استمر النفوذ السوري في لبنان حتى عام 2005، حين اغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ما أدّى إلى خروج القوات السورية من البلاد تحت ضغط شعبي ودولي. رغم ذلك، بقيت تأثيرات النظام السوري حاضرة عبر تحالفاته مع بعض القوى اللبنانية.

بالمقابل، شهد العقدين الماضيين تصاعداً في النفوذ الإيراني في لبنان عبر دعم حزب لله. إذ أصبح الحزب قوة سياسية وعسكرية كبيرة داخل لبنان، ولديه تبعية كاملة لإيران التي تدعمه مادياً وعسكرياً. هذا الارتباط بالخارج، رغم أنه منح حزب لله نفوذاً إقليمياً، إلّا أنه ساهم في تعميق الانقسامات السياسية والطائفية في الداخل اللبناني.

التدخّلات الغربية والدور العربي

إلى جانب التدخّلات السورية والإيرانية، كان للبنان أيضاً علاقات وثيقة مع الدول الغربية والخليجية، خاصة فرنسا والمملكة العربية السعودية. وكانت السعودية تاريخياً داعمة للدولة اللبنانية في جميع مراحل الحياة السياسية اللبنانية.

كذلك، كانت فرنسا تاريخياً لها دور في المشهد السياسي اللبناني، ولكنها لم تستطع في الكثير من الأحيان تقديم حلول فعلية للأزمات اللبنانية بسبب تشابك المصالح الإقليمية والدولية في الساحة اللبنانية. وباتت فرنسا، كما غيرها من الدول الغربية، تكتفي بإصدار بيانات وتحذيرات دون تقديم دعم حقيقي يمكّن لبنان من النهوض.

ضرورة استقلال القرار السياسي اللبناني

من الواضح أن لبنان لا يمكن أن يحقق استقراراً سياسياً طالما بقي رهيناً لمشاريع خارجية تخدم مصالح القوى الإقليمية والدولية على حساب وحدته الوطنية. إن استقلال القرار السياسي اللبناني ليس فقط ضرورة وطنية، بل هو الشرط الأساسي لبناء دولة قادرة على حماية سيادتها ووحدة أراضيها.

في هذا السياق، فإن النظام السياسي اللبناني بحاجة إلى إصلاح جذري يضع حدّاً للتبعية الخارجية ويعزز من استقلالية المؤسسات السياسية. ويجب العمل على تقوية الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية لتكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن حماية البلاد، ما يقلل من نفوذ الميليشيات والجماعات المسلحة المرتبطة بالخارج. كذلك، يجب إعادة النظر في النظام الطائفي الذي يضعف الوحدة الوطنية ويتيح الفرصة لتدخلات خارجية تستغل الانقسامات الداخلية.

تحدّيات الاستقلال السياسي

رغم أن تحقيق استقلال القرار السياسي يبدو ضرورياً، إلّا أن هذا الأمر يواجه تحدّيات كبيرة. هناك تشابك كبير بين القوى الداخلية والخارجية، حيث تعتمد بعض القوى اللبنانية بشكل كامل على الدعم الخارجي من أجل البقاء في المشهد السياسي. كما أن الوضع الإقليمي المتوتر يلقي بظلاله على الداخل اللبناني، حيث تجد القوى الإقليمية في لبنان ساحة ملائمة لتصفية حساباتها أو تحقيق أهدافها الجيوسياسية.

إضافة إلى ذلك، فإن الانقسام الداخلي بين الأحزاب اللبنانية المختلفة يجعل من الصعب الوصول إلى توافق وطني حول كيفية التعامل مع التدخلات الخارجية. فبعض الأطراف ترى في علاقاتها بالخارج وسيلة لضمان بقائها السياسي، بينما تطالب أخرى بضرورة فك هذه الروابط. هذا التباين يجعل أي محاولة للتغيير الجذري في النظام السياسي أمراً معقّداً ومليئاً بالتحديات.

الحلول الممكنة

رغم هذه التحدّيات، يمكن للبنان أن يسعى لتحقيق استقلاليته من خلال عدة خطوات. أولاً، يجب أن يكون هناك حوار وطني حقيقي شامل يضم جميع الأطراف السياسية والطوائف المختلفة بهدف الوصول إلى توافق حول ضرورة تحديد دور لبنان في المنطقة. ثانياً، يجب تقوية المؤسسات السياسية والأمنية الوطنية لتكون هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن اتخاذ القرارات السيادية، ما يقلل من الاعتماد على القوى الخارجية.

كما يمكن تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع دول محايدة تسعى إلى تحقيق استقرار لبنان دون التدخّل في شؤونه الداخلية. كذلك، يجب على لبنان العمل على تطوير اقتصاده المحلي ليكون أقل اعتمادًا على المساعدات الخارجية التي غالباً ما تكون مشروطة بخيارات سياسية تؤثر على سيادته.

 

في نهاية المطاف، لا يمكن للبنان أن يحقق استقراره ووحدة أراضيه طالما بقي مرتهناً بمشاريع خارجية. إن استقلال القرار السياسي اللبناني هو مفتاح للحفاظ على الوحدة الوطنية والابتعاد عن التوترات الداخلية التي أرهقت البلاد لعقود طويلة. حان الوقت للبنانيين أن يتفقوا على رؤية وطنية شاملة تعيد للبنان سيادته وتضعه على مسار الاستقرار والتنمية.

* محامٍ – دكتوراه في التاريخ الحديث والعلاقات الدولية