Site icon IMLebanon

لبنان تغيَّر كثيراً

ما يجري الآن بشأن الانتخاب الرئاسي وما جرى قبله بموضوع تشكيل حكومة قبل نهاية العهد السابق وغيرها من الأمور تشير جميعها الى أن لبنان تغير بأسرع وأعمق مما نفكر أو نتمنى. في الرئاسة ليس الموضوع الأشخاص، اذ أن الانتخاب واجب والشخصيات الكفوءة عديدة ويربح من يربح. المشكلة تكمن في طريقة اختيار الرئيس التي تعيق العملية. هنالك من يحاول أن يغير العادات أي عكس ما كان يحصل قبل 1975 وحتى ما بعده أحيانا. تغيير العادات ليس مسألة شكلية، انما تضرب روح وقلب النظام الديموقراطي اللبناني المبني على التنافس للحصول على المناصب السياسية. هذا التغيير ليس شكليا، ولن يكون مؤقتا بل سيدوم ويضرب نوعية الحياة السياسية اللبنانية أو ما تبقى منها.

النظام السياسي اللبناني يُضرب اليوم، والمسببون عديدون منهم من يعمل بطريقة مباشرة وآخرون بطريقة غير مباشرة. اذا كان من الممكن تصحيح الاجراءات الشكلية مع الوقت، فمن المستحيل تصحيح نوعية الحياة السياسية حتى مع الوقت. هذا التغيير في قواعد اللعبة السياسية لا يعود فقط الى التغيير الديموغرافي، بل الى تغيير أهم بكثير أي في التعليم والتربية والأخلاق والتي تردت جميعها. مفاهيم العلاقات الاجتماعية والشخصية أصيبت لأن الممارسة مؤخرا كانت سيئة ولأن الأجواء غير قابلة اليوم للتصحيح النوعي الايجابي.
لبنان يتغير ليس فقط بسبب ما يحصل منذ 2019 أي الثورة والكورونا وسوء الاداء السياسي والفساد، بل خاصة بسبب تردي الأوضاع المعيشية التي نقلت هموم اللبنانيين من مكان لآخر. في التعليم مثلا، لا يمر يوم ولا نسمع عن اضرابات ممكنة بسبب الأجور أو المنافع المادية وهذا حق والأساتذة مظلومون. انما المشكلة تكمن في الأجواء التي يعيش ضمنها الطلاب من سوء أوضاع مادية داخل المنزل الى مشاكل في المدارس الى ارتفاع تكلفة النقل وغيرها من التكلفات الأساسية. فكيف للطالب أن يكون منتجا وكيف سينعكس ذلك على قابليته للعلم ورغبته في استيعاب المناهج التي من المفروض ان تتحدث دوريا مع التطورات العالمية وليس كل فترة بحيث يصبح التأقلم أصعب ومكلفاً أكثر.
في التعليم، لا يمكن أن نتجاهل أيضا أن الطلاب قلقون على الأقساط وعلى قدرة الأهل على تسديدها. لا شك أنهم يسمعون كل يوم قلق الأهل وعدم قدرتهم على تسديد التكلفة التي لا تقتصر فقط على الأقساط بل تتعداها الى الكتب والقرطاسية والحاجات الغذائية والأدوات المخبرية وغيرها. للأسف فاقت التكلفات امكانيات الأهل، والطلاب أذكياء ويعرفون ويفهمون وهم أيضا قلقون وهل يمكننا القول أن هذه الأجواء لا تؤثر على المستوى التعليمي العام؟.

في التعليم الجامعي، العودة الى الأجواء التنافسية السابقة ضرورية وطلاب اليوم يدرسون لكنهم في نفس الوقت قلقون على مستقبلهم. في الماضي النتائج الجامعية الجيدة كانت تعطي الطالب وظائف جيدة أو تؤهله لها في القطاع العام أو الخاص. أما اليوم فالطالب لا يثق بالعلاقة بين النتائج الجامعية والفرص الوظائفية. يعتقد الطلاب، أحيانا وربما في معظم الأحيان، أن الواسطة تجلب الوظيفة وليس مستوى النجاح الجامعي. لذا الدافع للتفوق غائب في العديد من الأحيان. لا شك أن العلامات ليست المؤشر الوحيد للنجاح، انما هو عامل مهم كان يتنبه له سابقا كثيرا. لا ننكر أيضا ضرورة النظر الى عدد الجامعات وأهليتها للقيام بهذه المهمات العظيمة. لا بد من المراجعة وربما الدمج عندما يصبح ذلك ممكنا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ومهنيا.
في الصحة، نسمع كل يوم عن مشاكل الضمان الاجتماعي وعدم قدرة وزارة الصحة على القيام بمهماتها بسبب المال وأحيانا الكفاءات. اذا اعتمد المواطن على المؤسسات الرسمية، فالخدمة الصحية والاستشفائية ليست كما هو مطلوب بسبب المال. أما اذا توجه المواطن للتأمين في الشركات الخاصة، فقسط التأمين مرعب ويفوق حتى قدرة الطبقات الميسورة. نعود الى المشكلة الأساسية وهي تردي الأوضاع المعيشية للبنانيين مع انخفاض الناتج المحلي الاجمالي من 60 مليار دولار الى 20 خلال 3 سنوات. أصبحنا في أوضاع مادية مجتمعية لا نُحسد عليها. أما عدم قبول بعض البطاقات التأمينية وتسديد تكلفات ايضافية باهظة، فلا بد من معالجتها حماية لما تبقى من صدقية لكل مؤسساتنا الصحية.

ad
في المواضيع البيئية، نحن مهملون بل لا نعطي البيئة الأهمية التي تستأهل. نرمي الأوساخ على الطرق وعندما تمطر السماء تطوف الشوارع. المشكلة أساسها عدم احترامنا للنظافة العام وللسلامة المجتمعية، وفي حالات كهذه من الصعب على المؤسسات الرسمية تصحيح الأوضاع. طبعا يمكن للمؤسسات الرسمية تحسين الاداء ورفع الانتاجية، لكنها تواجه كغيرها في القطاعين العام والخاص بمستوى الأجور المتدني ومستوى المنافع غير الكافية وعدم قدرة الموظف على العيش الكريم حتى مقارنة بسنة 2019.
في مواضيع البنية التحتية من اتصالات ونقل وكهرباء ومياه وغيرها، المشاكل أكبر لأن الحاجات المالية أضخم في الانشاء والصيانة. نحتاج في لبنان الى طرق جديدة ولا نقول جسوراً وأنفاقاً لأننا نعلم مسبقا عدم قدرتنا على التنفيذ للأسباب المادية والفسادية وغيرها. الكهرباء مشكلة المشاكل ومعروفة أوضاعها. المهم جدا أن كل الجهود مبذولة اليوم لابقاء المؤسسات العسكرية والأمنية تعمل بأقصى درجات الفاعلية والانتاجية، والا انهار كل شيء أو ما تبقى من ركائز لمجتمعنا.
الحقيقة الواضحة أن عدم قدرتنا على انتخاب رئيس وتشكيل حكومة بل عدم قدرتنا أو رغبتنا في التحاور داخل المجلس النيابي أو خارجه هو انعكاس لما وصلنا اليه في كل الأمور الفوقية والتحتية. انتخاب رئيس ضروري جدا واحترام المؤسسات والقوانين الدستورية وغيرها واجب، لكن المشكلة اليوم أكبر بكثير اذ تصل الى كل زوايا المجتمع. التحديات التي تواجه الحكم المقبل ستكون حتماً كبيرة وأساسية حتى لا نقول مصيرية.