IMLebanon

من طروحاتهم تعرفونهم

 

 

السياسة علم وثقافة ومعرفة ومتابعة ومسؤولية، هذا في الدول التي تحترم سلطاتها القوانين وتُطبّقها على نفسها وعلى المواطنين وتُساوي بين الجميع، لكنها تتحوّل في الدول المحكومة من قبل سلطات مُتخلِّفة الى سلاح شرعي للإستعمال ضدّ المواطنين، والى منصَّة آمنة لحماية الفساد الرسمي والإفساد العام، وإلى قاعدة مُدعّمة بالقدرة على التدمير المُمنْهج للقيم الإنسانية، والى مطبخ مُجهّز بكافة الموبوءات من أجل إنجاح العمل الشيطاني.

 

أمّا في البلدان التي تمرّ بأوضاع اللاإستقرار الناتج عن الصراعات المرتبطة بالمحاولات المشروعة للتغيير والتجديد والتحرّر، فقد تُصبح حينها السياسة تجربة ومغامرة عند البعض من الطامعين والمُقتدرين، لأنّ التحديث في السياسة لا يأتي مُصادفة ومن دون ترابط، بل نتيجة نضالاتٍ طويلة ومستمرّة. وإن كان معظم السياسيين يتطبّعون من المجتمع ويُطبّعون فيه، وعلى أطباعه يأتون، فالسياسة ليست فقط تجانساً بين الناخبين وممثليهم، بل هي ثوابت وطروحات وبرامج وأفكار وأداء، ولكل فريق سياسي طرحه وبرنامجه ومشروعه الذي يدلّ على طبعه. ولذلك فمن “طروحاتهم تعرفونهم” وتكتشفون رؤياهم لإدارة شؤون الناس والبلاد. أمّا السياسي المُتطبّع الفاقد للطروحات الجدّية الحقيقية والقدرة على التنفيذ، والمتخفّي خلف الشعارات الرنّانة المعلومة والمنشورة، فهو المُغامر من أجل طموحات خاصة وأطماع شخصية، وهؤلاء كُثر في هذا الزمن في لبنان، ولا يُمكن تصنيفهم بسياسيين، لأن من صفات السياسي كما ميّزها العالم الإجتماعي الألماني ماكس نيبر وإعتبرها “المرجعية الأخلاقية للرجل السياسي” هي الشغف بالمسؤولية وبالقضية، قضية الإنسان وحرّيته، مؤكّداً أنّ السياسي يُمارس السياسة بعقله أولاً وأخيراً وليس بعواطفه وأهوائه.

 

تنقّلت السياسة في لبنان من مراحل العمل التقليدي لأرباب العائلات الذين دخلوا الى الحقل السياسي بعد نيل لبنان للإستقلال ونُشوء الدولة من أجل الحفاظ على ممالكهم ومصالح أتباعهم، الى العمل السياسي المطلبي والحزبي والتنظيمي للمجموعات التي تبنّت خطابات العدالة الإجتماعية والإنتفاضات ضدّ الدولة الحامية للسياسات التقليدية. ولكنها مع دخول لبنان في الحرب الأهلية تحوّلت هذه المجموعات الى أجواء النوستالجِيا اليسارية المُعارضة والمُتبنّية لمشاريع غير وطنية وغير عملية وغير موضوعية. أمّا بعد إتفاق الطائف فتغلّبت على العمل السياسي اللبناني الأجواء التجارية وعالم الأموال المُتفلِّت الذي لم يُراعِ العمل المؤسساتي، ممّا كشف لبنان أمام المشاريع الخارجية التي حاولت بشكل دائم أخذه كوسيلة وكرهينة وكذخيرة لحساباتها ومفاوضاتها وتسوياتها. إنّ كافة هذه التحوّلات لم تؤتِ للبنانيين بالتغيير المنشود وبالتحسّن بأوضاعهم، بل عرّضتهم لمغامرات فاشلة أوصلتهم للحضيض وإلى التصادم والتشرذم ووضعتهم بالمحظور، وقد نبّه صموئيل هنتنغتون من محاذير التحوّلات الكبرى تحت عنوان “التحديث” في كتابه “النظام السياسي في المجتمعات المتغيّرة” الذي نشره سنة 1968، فأشار الى “أنّ فرص حصول إنحطاط وتراجع سياسي عند التحديث تُوازي فرص حدوث تطوير سياسي، لأن بدون نظام سياسي ناجح لا يمكن للتطوير الإقتصادي ولا للتطوير الإجتماعي أن يمضيا بنجاح” علماً أنّ هذه التحوّلات أتت بتأييد ودعم من عدد من فئات المجتمع اللبناني التي إنخدعت، كل بدورها، بالشعارات التي لم تُفهم معانيها وأهدافها. وهذه الحقيقة تدفعنا للتركيز على أهداف الطروحات المُتاحة الآن منعاً للسقوط في المجهول مجدّداً، وأكثر المشاريع تأثيراً حالياً هو مشروع الحكومة الإسلامية في إيران المُتمثِّل بـ”حزب الله” اللبناني الهادف بكل وضوح الى رفض الشراكة الوطنية ومعاداة الحياد، مستنداً بذلك على إرشادات الولي الفقيه التي تكتسب صفة الألوهية ولا جدال فيها وتسمح بهدر الدماء لصالح الهدف. طرح “حزب الله” يعتمد إرشادات دينية عقائدية ممتلئة بالأحقاد والفرض ومُعاداة المفاهيم التي نشأ على أساسها لبنان، ولا تعترف بنضالات الشعب اللبناني التي سبقت حمله للسلاح وإستعماله ضد المعارضين. إن مشروع “حزب الله” يحمل في مكنوناته تناقضاً صريحاً للتاريخ وللتطور ويخوّن كل اللبنانيين الأحرار، في حين إنه يُغادر هو العقد الوطني والشراكة اللبنانية.

 

يترافق مع هذا المشروع الإيديولوجي الفئوي، مشروع آخر يحمل في طيّاته التأليه والتبعية والإلغاء للمواطنية، وهو مشروع التيار العوني الذي ارتدى منذ نشأته ثوباً رسمياً ومدنياً، لكنه إحتوى على الهرمية الزعاماتية، لاغياً المفهوم المؤسساتي، فخدم بأدائه التخلّف وضرب العلاقات الطبيعية بين المواطنين بعضهم ببعض، وعلاقتهم مع السلطات.

 

ففي الوقت الذي يبقى هذان المشروعان مطروحين على اللبنانيين تتنافس معهم مشاريع قديمة جديدة تحمل الكثير من العداء للقطاع الخاص وللمبادرة الفردية ويؤمن بالشمولية وبوضع اليد من قبل السلطات على مقدّرات الشعب اللبناني لتمويل الإنضباطية والإخضاع. يمزج هذا المشروع عن قصد بين الناجح والفاسد، ويُظهر نفسه بالشعبوية وبالثوروية، ويضمر بباطنه السلطوية والإلغائية البغيضة.

 

يواجه كل هذه المشاريع المتشابهة فكر “القوات اللبنانية” بطروحات تطويرية للعمل السياسي وللإدارة، وقد أثبتت ذلك من خلال مشاركاتها وزارياً ونيابياً عند طرحها لبرامج إصلاحية رؤيوية. وتتوافق “القوات” مع عدد من القياديين المدنيين والأكاديميين البارزين والإعلاميين القادرين على مشروع إعادة لبنان الى مركزه المرغوب إقليمياً ودولياً والجاذب للإستثمارات ولرجال الأعمال وللمعاهد ولمراكز العلوم، ليكون مشروع دولة الحرّيات، لكن المصحوبة بالمسؤولية، دولة الإزدهار، لكن المضبوطة بالعدالة، ودولة الإستثمارات، لكن المُرفقة بالرقابة، ودولة التنافس، لكن المُصانة بإحترام القوانين. مُرتكزات الطرح القواتي هي إحترام دور مؤسسات الدولة كدائرة المناقصات وكتعيين هيئات ناظمة وكإعتماد مجلس الوزراء مكتملاً كمرجعية في كافة الأمور، وأهمها الدفاع عن لبنان وترسيم الحدود وحمايتها، وإقامة أفضل العلاقات الخارجية حسب مصالح اللبنانيين.

 

عندما طرحت “القوات اللبنانية” مشروعها كان محاولة إنقاذية للبنان مما ألحقته المشاريع الأخرى من تدمير وإساءة اليه.

 

فأي مشروع من هذه المشاريع يريد اللبنانيون لأنفسهم، بعد الإطلاع على طروحاتهم “فتعرفونهم”؟