IMLebanon

الرئاسة اللبنانيّة: بين القيادة الديمقراطيّة والزعامة القبليّة!

 

لا يزال انتخاب رئيس لجمهورية لبنان يواجَه بالتعقيدات والمصاعب من مختلف الأشكال والمرتكزات: السياسيّة والايديولوجيّة مع ما فيها من التباسات وتصورّات تخيليّة خادعة يأتي في مقدّمها زج موضوع الحوار في مقاربة تشكّل في ذاتها النقيض للحوار، ولكل ما يتصل به من أسلوب ونتائج على يد جهة أغلقت منذ زمن طويل باب الحوار وأقفلته بمفتاح «الحقائق النهائية» لكل ما ومن، يتصل بحياة الانسان في محيطه الاجتماعي عبر التاريخ: ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

 

إنّ فهم ما يحدث الآن على صعيد لبنان، الوطن والدولة، يقتضي قبل كل شيء العودة إلى تاريخ لبنان القديم لاكتشاف ميزة أساسية طبعت شعب هذه المنطقة من الجغرافيا الاقليمية وهذه الميزة هي بكل وضوح: «الديمقراطية» ذلك أنّ سكان المدن الفينيقية من صور إلى صيدا إلى بيبلوس كانوا ينتخبون الأشخاص الذين يوكلون إليهم ادارة المدينة. لقد سبقوا حكّام أثينا في ذلك. وكانت القاعدة العملية في الاختيار تقوم على أن يكون نظر الحاكم سليماً. وعندما تكون العينان سليمتين فهذا يعني عملياً: أنه يرى صحيحاً ويرى بعيداً. وهذا هو المطلوب: أن لا يخطئ… وأن يتوقّع!

 

منذ بدايات الحضارة على شاطئنا المتوسطي، كانت ممارسة الحكم محكومة بقواعد وقوانين تفرض على الحاكم قاعدة الالتزام بها. وفي هذا المنحى وُلد الحكم الديمقراطي انطلاقاً من قاعدتين: أن تكون السلطة الحاكمة نتيجة لإرادة الجماعة التي تحكمها بالانتخاب. وأن تلتزم هذه السلطة بدستور الجماعة فلا تتخطاه ولا تنقضه.

 

بالمقابل كان هناك نظام حكم نقيض للديمقراطية. إنّه حكم الديكتاتورية الفردية من جانب، وحكم التسلّط الذي يمارسه زعيم عشائري قبلي من دون الاعتبار لأي قوانين أو قواعد هي أصلاً غير موجودة في عملية ممارسة السلطة. من هنا يتمادى الزعيم القبلي في تعسّفه ومقرّراته متجاوزاً كافة الأصول والأعراف والدساتير وذلك تنفيذاً لسياسة يرى أنّها تخدم أهدافه حتى وإن كانت مخالفة للشرع العام.

 

إنّ ما يحدث الآن في لبنان، على صعيد انتخابات رئاسة الجمهورية هو مواجهة، بل صراع بين هاتين النظرتين حتى وإن حاولت احدى الجهتين التستّر على حقيقة الصراع ونقله من صراع على الجوهر إلى صراع على الشكل. ذلك أنّ الحوار الذي يُراد تسويقه هو مجرّد وسيلة للإحراج السياسيّ. إنّ طرح الحوار بالشكل الذي يتم فيه هو نقيض للحوار المطلوب للبنان. فما يريدونه من الحوار هو بكل بساطة ووضوح الحصول، (حصولهم) على حصّة إضافيّة في معادلة السلطة لمصلحتهم وعلى حساب المسيحيين وهي حصة تضاف إلى تحديد سلطة الرئيس المسيحي في اتفاق الطائف، والسيطرة بالقوة على منصب وزير المالية واعتماد الثلث المعطل في قرارات السلطة التنفيذيّة… هذا ما يريدونه ويسعون إليه تحت ستار الدفاع عن الديمقراطية الشكلية من خلال التمسّك بالحوار!

 

أجل إنّ الحوار هو عماد أساسي في التركيبة اللبنانية الواقعة دوماً بين قطبين: الانفتاح والانعزال، العالميّة والذاتيّة. وانه بالحوار يمكننا الوصول إلى المحصّلة أو النتيجة المرتجاة: حوار الانسان والألوهة، حوار الانسان والطبيعة، حوار الديانات وخاصة المسيحية – والاسلام، حوار الحضارات (الغربية والشرقية)، حوار الشطآن (الشرقية والغربية للمتوسط).

 

إنّ الحوار هو الوسيلة الأنجح والأسلم لتجديد الفكر والمجتمع والدين والانسان في لبنان. ولذا اقترحنا أن يكون لبنان مركزاً لحوار الأديان منذ العام 1994 أمام مجلس بطاركة الشرق الأوسط الكاثوليك.

 

هذه هي بعض عناوين الأمور التي ينبغي ان يجري الحوار حولها… وهذه هي بعض النتائج المتوقعة والمتوخّاة من هذا الحوار. وليس ما تتوقعه وتتوخاه جماعة الكائنات الخياليّة في الدين والمجتمع والسلطة والسياسة!

 

منذ زمن الفينيقيين كان اللبنانيون معروفين ومشهورين بنزعتهم الحضارية لأسباب ذاتية وموضوعية. ذاتياً كان الفينيقيون شعب تحاور وتفاهم وتعارف مع جيرانهم في الشرق (شعوب دجلة والفرات) وفي الغرب (شعوب وادي النيل) وموضوعياً، وانسجاماً مع نزعة التفاهم، سعى الفينيقيون إلى ايجاد وسيلة تفاهم بين هذه الشعوب الشرق أدنوية أي خلق لغة مشتركة في ما بينها، هذا ما نوت عليه وفعلته بيبلوس من خلال الأحرف الهجائيّة!

 

هذا التوجّه الذي مثلته بيبلوس في تاريخ الشعب الفينيقي (اللبناني) يعود بالدرجة الأولى إلى انشغالهم الذاتي ونظرتهم إلى الحياة وعظمتها ومجدها. لم تكن هذه النظرة مبنيّة على القوة الجسدية والمادية للانسان وللآلة بل على البعد الآخر للانسان أي قوته المعنوية والفكرية وتطوير الحياة بتجديدها وتجويدها عبر الاحتكاك بالعالم. وأبرز تجلياته كان في إبداع الأحرف الهجائية التي هي الوسيلة الفضلى لتجديد الحياة وتجويدها بقوة الفكر بالكتابة والتي هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق التقدّم.

 

لقد عُرف شعبنا منذ فجر التاريح بأنّه شعب مسالم وحضاريّ ومساهم في بناء الحضارة الانسانية، وكما يقول وول ديورنت في كتابه الشهير، «قصة الحضارة»، «كانت الكلمة بداية الانسان لأنه بالكلمة اصبح الانسان انساناً» وكان أبناء لبنان وبيبلوس تحديداً من وضع هذه الكلمة – البداية، ثم انتشرت في كافة أصقاع الأرض فصارت كل الحضارات في العالم مدينة للألفباء الجبيلية والتي وصفها مؤرخو الحضارات بأنها «الاختراع الأبرز في تاريخ البشرية».

 

أليست هذه العناوين صالحة لأن تكون موضوعات للحوار بين اللبنانيين لاستعادة مجد الكلمة وعظمة الانسان اللبناني؟! أم سيبقى مصيرنا معلّقاً بيد الزعماء القبليين الذين لا يعنيهم إلا الحكم الاستبدادي؟ سؤال مطروح بقوة على عقول وضمائر اللبنانيين جميعاً… وأكثر على ضمائر الذين في الخارج يبدون اهتماماً بلبنان صحيحاً… أو كاذباً!

 

وما ينبغي قوله، والتنبيه اليه، هو أنّ على الذين كالعادة ذهبوا بعيداً في حساباتهم… أن يعيدوا النظر في هذه الحسابات!!