«نحن اللبنانيين، نمسك بأيدينا ونختزن في ذواتنا كل مستقبل بلادنا… أجل إنّ خلاصنا يتوقّف على ذكائنا» بهذا الكلام الواضح والعميق والتاريخي توجّه القائد الوطني حميد فرنجيه إلى اللبنانيين في محاضرة له في الندوة اللبنانية عام 1956. إنّه الكلام الذي يفترض باللبنانيين أن يسمعوه ويردّدوه بالأمس واليوم وغداً… والأهم من ذلك أن يعملوا بموجبه في تحديد مصير وطنهم وشعبهم لأنّه خلاصة الحقائق الجيو- سياسيّة حول لبنان الكيان والمصير في لعبة الأمم.
1 – تكثر الاجتهادات في هذه الأيام حول خروج لبنان، أو اخراجه من المأزق الذي يعيش فيه والمتمثل في آخر تجلياته في اختيار وانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. وتتمحور القوى المتواجهة حول خيارين: أحدهما للثنائي الشيعي («حزب الله»- و»أمل») الداعم لسليمان فرنجيه وثانيهما للمعارضة والمستقلين والسياديين وقد أعلنت تأييدها للوزير جهاد أزعور مرشحاً رئاسياً. وبين هذين القطبين تقوم القوى المحليّة والاقليميّة والدوليّة بتأييد هذا الجانب او ذاك بانتظار تعيين جلسة انتخاب الرئيس وفرز القوى نهائياً بين الجانبين.
2 – لقد بات واضحاً من خلال مواقف البطريرك الراعي، وخاصة بارساله ممثلاً عنه هو المطران بولس عبد الساتر رئيس اساقفة بيروت للقاء الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي أعلن تمسكه بترشيح فرنجيه واستمراره بالحوار. في حين أكّد المطران عبد الساتر، باسم البطريرك اصراره على التوافق على رئيس وإذا لم يكن ذلك فالذهاب إلى انتخاب يعبّر عن أكثرية القوى المسيحية دون ان يعني ذلك تحدّياً لأحد!.
3 – إنّ مبادرة البطريرك بفتح حوار مع الثنائي الشيعي تؤكد المنحى الذي انتهت اليه زيارته للفاتيكان وباريس وهو: إقامة حوار مع القوى المعارضة الشيعية داخل التركيبة اللبنانية، يبدو أنّ هذا التوجّه زاد من تصلّب وتصعيد القوى الشيعية إلى درجة التهديد بمنع وصول مرشح المعارضة جهاد أزعور إلى قصر بعبدا وهو ما عبّر عنه عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب حسن فضل الله إذ قال: «لن يصل مرشح التحدي والمواجهة إلى بعبدا أياً يكن اسمه».
4 – إنّ الثنائي الشيعي، في حين أنّه كان المبادر إلى اتخاذ المواقف والقرارات في موضوع الرئاسة دون الحوار مع احد وخاصة مع القوى المسيحية التي يعود اليها اختيار رئيس الجمهورية الماروني من باب الاحترام إذا لم يكن من باب القانون. وفي حين تردد وسائل الاعلام الشيعية ضرورة الحوار حول الرئاسة، يسأل المواطنون ويتساءلون حول مضمون هذا الحوار: ما هو مقبول وما هو مرفوض فيه، كيف ولماذا؟ وما هي الأسس المعتمدة في ذلك؟
5 – أمّا التصويب على الإدارات الأجنبية ودور العواصم في ذلك، وخاصة (روما – وباريس)، وفي حين ينسى الثنائي الشيعي أنّه هو ابن ووريث القوى الأجنبية وعلى رأسها العاصمة الفارسية طهران وجمهورية ولاية الفقيه، فهذا يعني أنّ الثنائي لا ينظر إلى نفسه أولاً ليعرف طبيعته هو، وأين وكيف خلق لنفسه كياناً سياسياً عسكرياً داخل الدولة اللبنانيّة.
6 – أمّا تشديد الثنائي على ضرورة اختيار رئيس للجمهورية بارادة مختلف القوى وبعد حوار بينها، فهو ينسى هنا أيضاً كعادته في جميع مراحل مساره السياسي انّ ما يطلبه للرئيس اللبناني الماروني من شبه اجماع وطني عليه، ينطبق تماماً، ويجب أن يطبّق أيضاً على رئيس مجلس النواب الشيعي، ورئيس الحكومة السني، إذن القاعدة إما ان تكون شاملة للجميع وإمّا ان لا تكون منطقيّة!
7 – هناك نقطة أساسية في مقاربة هذا الموضوع وهي موقف فرنسا من حياد لبنان. فقد أرسل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران رسالة إلى الرئيس اللبناني الياس سركيس (25/5/1981) جاء فيها: «إنّ فرنسا هي بين الدول التي يهمها مصير لبنان، وهي متنبهة للمخاطر التي تهدد وجوده، ومستعدة للحفاظ على مصالح لبنان الأساسية». يضاف إليه ما قاله رئيس الوزراء الفرنسي بيار موروا في زيارته لبيروت (26/5/1982): «إنّ فرنسا لا يمكنها التخلي عن اهتمامها بلبنان ولا التخلي عن مستقبله وعن احتفاظه بحدوده وبسط سلطة حكومته وسيادة شعبه وهي مصممة مهما كانت الصعوبات والأخطار على المساعدة في ايجاد حلّ للمأساة».
الحياد
لقد صار ثابتاً في أذهان المسؤولين الفرنسيين وخاصة الاشتراكيين بينهم أنّ الحل الذي يحفظ مصير لبنان ووجوده ولا يفرّط بجغرافيته ولا بتركيبته هو الحياد. فقد دعا السيد كلود شيسون إلى تحييد كامل الأرضي اللبنانية، على أن يكون حياداً مضموناً على الطريقة السويسرية، ذلك «أنّ حياد لبنان هو الحل».
وصيغة لبنان لا يمكن أن تكون إلاّ صيغة حيادية، وفي قناعة السيد شيسون أنّ صيغة الحياد ينبغي أن تقرّ بناءً على طلب اللبنانيين على أن تقترن بضمانات جيران لبنان والدول الكبرى (النهار 14/11/1987) ويذهب السيد شيسون إلى لوم الحكم اللبناني لأنه عرض عليه اقتراحاً بحياد لبنان عام 1983، ولم يأخذ اللبنانيون به!
أما السيد ليونيل جوسبان (الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي الفرنسي) فرأى «ضرورة تحييد لبنان كأفضل حل للقضية اللبنانية» (السفير 26/5/1985) كذلك صرح السيد جاك هوتزينغر الناطق باسم الحزب الاشتراكي في السياسة الخارجية «بأنّ الحل الجدير بالحياة في لبنان هو نوع من انواع الحياد» (النهار 5/6/1985) كذلك السيد فرانسوا دي غروسوفر مستشار الرئيس ميتران حمل معه مشروعاً لحياد لبنان وعمل على اقناع الدول به ومنها الفاتيكان (الأنوار 1/5/1985) أكثر من ذلك فقد عرض مسؤولون فرنسيون امكانية تحييد لبنان على وزير الخارجية السوري فاروق الشرع لدى زيارته باريس (أيار 1985) كما أكّدت ذلك الأكاديمية الفرنكوفونية السورية الأصل باسمة قضماني درويش (فرنسا ولبنان فيPolitique étrangère – 2/85..)
باختصار فإنّ الموقف الفرنسي خاصة والأوروبي عامة يرى ضرورة أن يبحث أي مؤتمر للسلام في الشرق الأسط «صيغة لبنان المستقبل التي ينبغي أن تكون صيغة حيادية» (النهار 14/11/1987)
السؤال الجوهري هنا هو: هل أنّ الرئيس الفرنسي ماكرون يهتم ويقرأ في تاريخ الديبلوماسية الفرنسية وموقفها من لبنان عبر التاريخ! ويتعظ بها؟! … في ظل ما نراه ونقرأه ونسمعه من مواقف، بكل أسف نشك في ذلك؟
(*) باحث في الفكر الجيوسياسي