Site icon IMLebanon

الرئاسة اللبنانية… ومقهى الضاحية الجنوبية

كلام في السياسة |

ماذا يعني أن يعلن نهاد المشنوق، أحد الكيانيين الصادقين، رغم حسابات الطائفة و»الأمة» وما بينهما عنده، أن «القرار الإقليمي والدولي غير ناضج لانتخاب رئيس للجمهورية»؟ أو ماذا يعني أن يظهر مروان حماده، مثلاً، منسوباً عالياً من الهلع حيال احتمال تأييد سمير جعجع لميشال عون مرشحاً للرئاسة، وأن يداوي هلعه هذا بإظهار مساوئ خطوة كهذه على علاقة جعجع بالنظام السعودي؟

أو ماذا يعني أن يتباهى قبل يومين أحد الشباب ــــ المفترض كيانياً سيادياً تغييرياً حتى الثورة والتثوير ــــ بأن دبلوماسياً أميركياً رفيع المستوى في بيروت، قد بدأ تحركاً فاعلاً لدى مسؤولي دولتنا البلدية، لفرض السير في إحدى التسويات الرئاسية؟

بمعزل عن الاستحقاق وبورصة أسمائه وحظوظ كل منهم والحسابات الشخصية والمصالح الفئوية، يظل الأكيد أن مواقف صادقة كهذه، تشي أولاً بأن ثمة طبقة سياسية كاملة في لبنان، لا تزال تعتبر أن «كوتا» الإرادة اللبنانية في تسيير شؤون بلادها وحكم دولتها، لا تزال متواضعة جداً. وأن الكلمة الأولى، في شأننا الداخلي، لا تزال لموازين القوى الخارجية وأهل «القرار الإقليمي والدولي». هي مجرد عوارض على أن العقل السياسي العام للإستابليشمانت اللبناني، لا يزال يعيش في زمن دولة قناصل القرن التاسع عشر.

في قراءة استرجاعية لتاريخ الرئاسة اللبنانية، يظهر هؤلاء على حق مؤكد في الماضي. فرؤساء لبنان منذ بدايته كدولة سنة 1920، حتى نهايته كرئاسة محترمة سنة 2008، صنعهم الخارج. حتى استحقاق 1970 في انقسام برلمانه، لم يكن إلا انعكاساً لانقسام العالم يومها بين قطبيه وحربه الباردة… ملاحظات ثلاث تبدو ضرورية حيال هذا الفكر في الوضع الحالي وفي الاستحقاق الراهن:

الملاحظة الأولى بسيطة قاسية حتى الطرافة، مفادها أنه اليوم، ما من جهة إقليمية أو دولية مهتمة بلبنان. وما من وزير خارجية واحد، في دولة عظمى أو صغرى أو ما بينهما، مهتم برئاستنا لا شغوراً ولا ملئاً. حاول دايفيد هايل بصدق، رفع مستوى عناية إدارته باستحقاقنا طيلة عام ونيف، من دون جدوى. وهو ما دفعه إلى «التخييط» محلياً. مع محاولة ساذجة لذرّ الرماد في العيون، وللإبهار بأن قراراً أميركياً يقف خلف تلك الحياكة البلدية. وهو ما لم يلبث أن كشف وافتضح وسقط. زوار السعودية في الأسابيع الماضية لمسوا تلك الحقيقة. بعضهم صمت. بعضهم كابر في عدم التصديق والإصرار على حالة الإنكار. كأنهم يرفضون أن يكونوا أسياداً. يستهولون غياب الوصي. يستفظعون أن يصيروا هم المسؤولين، بلا عنجر ولا عوكر. وحدها باريس ربما لا تزال تشذّ عن تلك القاعدة. لأسباب مختلفة. بعضها نابع من وجدانها البائد كدولة منتدبة على بيروت. وبعضها الآخر منبثق من عمل بعض مسؤوليها مقاولين على القطعة لدى رجل أعمال هنا أو ملياردير هناك. وهو ما جعل الفرنسيين وحدهم، دون سواهم، يجهدون من طهران إلى الرياض، بحثاً عن طبخة رئاسية لبنانية، تنتهي بحصاً. أصلاً في هذا السياق، يبدو ضرورياً تذكير بعض المعنيين والمراهنين، بأن فرنسا سنة 1943 كانت «تحتل» لبنان. وكان المجلس النيابي 55 عضواً. وأرادت باريس يومها إميل إده رئيساً، فانتخب بشارة الخوري! هذه اللامبالاة الدولية حيال «بلاد الأرز العظمى»، حقيقة أولى يجدر التوقف عندها. فمنها ثمة مفترق في الخيارات والقرارات مفتوح أمامنا كلبنانيين: إما الانحدار أكثر في الأوهام والخيبات، وإما اغتنام الفرصة نحو سياسة لبنانية سيادية كاملة فعلاً، حتى في الاستحقاق الرئاسي.

ملاحظة ثانية ضرورية حيال الإشكالية نفسها، وهي أن الذين لا يزالون يستبطنون فكر الوصاية، لم يدركوا أيضاً، أنه بات في لبنان نفسه، وفي بيروت ذاتها، لاعب إقليمي مواز للاعبين الأجانب المنكفئين، وأكبر من بقايا سياسات التدخل الخارجي في الشأن اللبناني. ثمة قسم كبير من طبقتنا السياسية لم يعرف، أو لم يعترف بعد، أن حزب الله صار قوة إقليمية. وأن حسن نصرالله صار قامة على مستوى امتداد نفوذي من اليمن حتى غزة. فكيف به في لبنان؟! وهو عامل آخر من عوامل أخطاء الحسابات الأخيرة. تكفي قراءة المشهد التالي: في أحد المقاهي الشهيرة في الضاحية الجنوبية، يصادف رواده دورياً، حشداً من زوار عرب وخليجيين من جنسيات مختلفة. قاسمهم المشترك أنهم سياسيون مرشحون لانتخابات بلادهم، التي تتأثر بلاعب الضاحية الإقليمي. فيأتون بيروت لطبخ انتخاباتهم فيها. فهل يعقل في الزمن نفسه، أن يدور مرشحو الرئاسة اللبنانية على عواصم أجنبية، تعلن بوقاحة لامبالاتها حيال بلادنا ورئاستنا وانتخاباتها؟

تبقى ملاحظة أخيرة، أن جذور هذه المشكلة قد تكمن في العقل، أو في العادة، أو في الخوف أو الحاجة أو موازين القوى أو النوازع والانتماءات المركبّة لناسنا وقبائلنا الطائفية. لكن حلها واحد، أن ينتخب اللبنانيون رئيسهم. تصوروا ثلاثة ملايين مقترع ونيف، يختارون رئيس الجمهورية اللبنانية، هل كان ليعلن أي عاقل عندها أن القرار الخارجي لرئاستنا لم ينضج بعد؟!