IMLebanon

الرئاسة اللبنانية ونخبة «الطائف»: القراءات تقهر النصوص

اتفاق الطائف، كممارسة، انتهى. الأسس التي وُجد على أساسها انهارت الواحدة تلو الأخرى منذ العام 2000. هذه مقدمة ضرورية لفهم الغموض والتعقيد في المشهد السياسي اللبناني حالياً. لا تسقط النصوص السياسية بالإعلان بل بنشأة توازنات قوى جديدة. الوقائع المادية تقهر النص البشري وتفسيراته. فوضى السنوات الأخيرة ليست في جوهرها إلا جزءاً من مخاض تثبيت التوازنات الجديدة التي ستخرج من رحمها قراءة مستحدثة لنص الطائف. تغيير نظام الطائف لا يستدعي حكماً تغيير الصياغة والنص، بل تكفي إعادة التفسير والقراءة للمفاهيم والقواعد، وهي مهنة يحترفها اللبنانيون. بالمختصر، النصوص ليست حروفا، بل قراءات.

يعاني نظام الطائف من معضلتين مرهقتين، ضموره من داخله والضغط عليه من خارجه عبر الانزياحات في موازين القوى. الضمور من الداخل يبرز كنتيجة طبيعية للممارسات المافيوية لأقطاب النظام في بلد يفتقر لموارد طبيعية (حتى اللحظة) تسمح لنخبته في إعادة تجديد عناصر قوتها. الممارسة المافيوية عملت على تركيز الثروة تصاعدياً لدى نخبة أعلى الهرم في ظل عملية موازية من بث كل أنواع الأفكار الرجعية الى قاعدة الهرم لتأمين الرضوخ والتسليم والموافقة الشعبية. تحصل في هذا السياق عملية معاكسة على مستوى قاعدة الهرم الاجتماعي وقمته، القاعدة تتوسع وتتمدد فيما القمة تزداد انكماشاً، أي أن المصالح التي يمثلها النظام لا تنفك تتحلل وتتقلص.

الموارد والريوع المتاحة لم تعد تكفي أقطاب نظام الطائف لإدارة مجالهم المذهبي، فانتقل التنافس إلى داخل هذه الكتلة في ما بينها كما في ملف النفايات. ينعكس كل ذلك في ترهل النظام وضمور نسبي في قاعدته الاجتماعية، ما سمح ببدء صعود أصوات جديدة تعبر عن حالة من اليأس الجماعي والرغبة بتحدي الوضع القائم. عادةً تضمن الأنظمة مشروعيتها إما من خلال تأمين «المشاركة» الشعبية (الديموقراطية الليبرالية) أو مجرد «الاسترضاء الشعبي» ولو من دون مشاركة (دول الخليج مثلاً)، أما في لبنان، فالمشاركة فارغة وصورية (مجرد صندوقة اقتراع)، والاسترضاء يتجه نحو السخط.

يضاف إلى ذلك، أن أزمة قوى النظام تنتقل من داخل مذاهبها إلى بناها الحزبية والتنظيمية وحتى «الأسرية»: تناسل وتشتت وتنافس في مراكز القوى، ضمور في الريوع والخدمات للمحازبين، تركّز الثروة ونشوء مراكز ثقل تابعة لها، شيوع ثقافة الانتهازية على حساب الولاء بحدوده الضيقة، بنى تنظيمية صورية ومترهلة، والأهم غياب البديل الجدي في الجيل الثاني للزعامات كما برز حتى الآن، بشكل جلي، في الحالة الحريرية والجنبلاطية. أداء الرئيس سعد الحريري ساهم في تفكيك هرمية القوة التي بناها والده في البيئة السنية فيما آل الحريري أنفسهم يسيرون إلى ما سبقتهم إليه أسر الزعامات السنية التقليدية. أما وليد جنبلاط فيبدو عاجزاً وشديد الريبة في إخراج خليفته الشاب إلى المسرح السياسي، والأخير بدوره يبدو مهجوساً بتجربة الشاب سعد الحريري ومكرهاً على خوض ما لا يهواه. لسوء حظ «وليد بك» أن وضعية النظام الآن لا تتيح رفاهية «التجريب» ولا «التدريب» لخلفه الشاب. أزمة التوريث لها أيضاً صلة بطبيعة «الجمهور»، لم يعد التصفيق مضموناً.

أما من خارج بنية النظام، قوى جديدة تعود لمسرح اللعبة، بالتحديد المسيحيين المتسلحين بنص اتفاق الطائف بخصوص المناصفة، المناصفة التي لن تعود، لأن السياسة توازنات وجوهرها «العد» الذي يستحيل أن يتوقف، ربما يُعلق في أحسن الأحوال. برغم ذلك يسعى المسيحيون لتحسين شروط اللعبة، مستفيدين من تفاهم «التيار الوطني الحر» مع «حزب الله». بالنسبة للحزب، بقاء أكثرية مسيحية متفاهمة معه يُشكل صمام أمان لا غنى عنه لموازنة حلفاء السعودية التي تنخرط بدورها في اشتباك محموم مع الحزب. من ناحيتهم، يخوض المسيحيون معركة أخيرة للعودة الى اللعبة اللبنانية، الأخيرة لأن الوقت ليس في مصلحتهم لا سيما ديموغرافياً، ولأنه يصعب جداً (ربما يستحيل) أن تتوافر مجدداً هكذا شروط مثالية لمعركة مسيحية لاستعادة الدور. خسارة العونيين لمعركتهم تعني عودة «حزب الله» إلى تحت مطرقة قوى الطائف كما في مرحلة التسعينيات وتراجع موقعه التفاوضي تجاهها، وهو ما يُلحق الضرر بالآمال الاصلاحية للحزب والأهم بمشروعه في المقاومة.

يجري كل ذلك في ظل غياب تفاهم اقليمي ـ دولي على قواعد اللعبة الجديدة في لبنان، بما يُعقّد التسوية ويتيح للقوى المحلية تأثيراً أكبر في المجريات الداخلية. هنا تنبغي الاشارة، في نهاية المطاف ستنشأ صيغة إقليمية ـ دولية جديدة لادارة «الملف» اللبناني لكنها ستكون إدارة متصلة بملف إدارة التوازنات السورية في ما بعد نهاية الحرب، أي أن كل لاعب إقليمي ـ دولي سيُقارب الملف اللبناني كجزء من المساومة الدائمة في «سوريا ما بعد الحرب». هذه الصيغة ستشهد توسع الدور الروسي في لبنان لتعويض الغياب السوري، كما يُرجح أن يتطور الدور التركي ـ القطري في لبنان على حساب السعودية التي تراجعت في الملف السوري، لا سيما مع اتجاه الطائفة السنية نحو تعددية واضحة. إلا أن «حزب الله» سيعوض الجزء الأكبر الغياب السوري. الحزب الذي انخرط، مضطراً، في السلطة التنفيذية بعد الانسحاب السوري العام 2005، أصبح مرغماً على تطوير أدواره «ما فوق التنفيذية» في ظل الانكفاء الإقليمي لسوريا. هذه الأدوار إن لم يمتلك الحزب الكفاءة والجرأة الكافية للقيام بها ستنقلب الى عبء عليه.

إذاً هناك رغبة متزايدة في تحدي قوى النظام، إما من داخل بيئاتها الهوياتية الضيقة أو من خارجها، أو من قوى ضغط شبابية تتسرب الى خارج دائرة البنى التقليدية. قوى النظام حالياً تمارس الانتحار، فهي تعاند تسوية مع المسيحيين لتسكين وامتصاص ضغوط «خارج البنية»، والذين لن يقبل «حزب الله» أن ينكسر ممثلهم العوني، وتعجز عن إجراءات «إصلاحية» تسمح بانسياب للموارد والمنافع والخدمات لشرائح أوسع داخل طوائفها. البلد متجه الى مزيد من تشتت وتناثر القوة وترهل كل هرمياتها، ومن دون إعادة مأسسة الحياة السياسية وضبطها وفق قواعد واضحة وقابلة للعيش، فإن البلد متجه نحو مزيد من الفوضى، فيما تعمل قوة «حزب الله» وانضباطيته «كصمغ» يمنع انهيار كل شيء. قوى النظام مرغمة على التراجع خطوات للخلف لاستيعاب كل ذلك، وإلا فانها «تنتحر خوفاً من الموت».