أزمة لبنان الفعليّة، بعمقها المصيري والوطني، هي أزمة انتماء إلى هذا اللبنان. وأزمة ولاء. وأزمة أخلاق ونفوس أبيّة. وأزمة قيادات ومرجعيّات أصيلة في جذورها وقيمها وولائها ووفائها.
برهنت الحروب السابقة، والأسبق منها، واللاحقة، مثلما أثبتت أزمات السنين العشر المتتالية والمتوَّجة بالفراغ الرئاسي منذ سنة ونصف سنة أن لا وجود لشعب لبناني إلا بالهويّة… لا بالانتماء والانصهار، على غرار الشعوب الأخرى في بلدان العالم.
هنا بيت الداء اللبناني القديم والدائم، والذي لا دواء له. كما برهنت التجارب الطويلة أن حامل الهويّة اللبنانيّة يتعامل مع هذا اللبنان على أنه باب ارتزاق، أو فرصة لتكوين ثروة بمختلف الطرق والوسائل والسُبل، الملتوية في أحيان كثيرة.
حالما تجفُّ مصادر البيع والشراء، على نحو ما هو حاصل اليوم، يفتّش حامل الهويّة عن جواز السفر مجدّداً، والحقيبة المجهَّزة بإتقان، ودُغري دوس إلى مطار بيروت بحماسة وفرح…
ثلاثة أرباع حمَلَة الهويّة اللبنانيّة من هذا الطراز. فإما هاجروا هرَباً من “المزرعة السائبة” وحملوا هويّة ثانية من “وطن جديد” وحقيقي، وإما يتهيّأون ويستعدّون للصعود إلى طائرة الهجرة عندما تحين الساعة.
لطالما سمعت أُناساً من أقربائي يتحدّثون عن البلد الذي هاجروا إليه بلهفة واعتزاز. وكلّما دقّ الكوز بالجرّة يقولون لك: “عندنا ما مُمكن يصير اللي صاير ببلدكم”، أي بلبنان! عندنا في كندا، أو عندنا في بوسطن، أو عندنا في أوستراليا كذا وكيت.
عندنا ثم عندنا، وكأن لبنان محطّة عابرة تمهيداً للسفر إلى “الوطن الحقيقي”… وإلى “عندنا”، أي عندهم. تحتاج المسألة إلى حضور الشيخ الرفيق سعيد تقي الدين ليحدّثك عن فظائع شمدص جهجاه حامل الهوية وجواز السفر اللبناني، والذي قصَد الفيليبين، وراح يُحدِّث الشيخ سعيد عن مسلسل مشاريعه التي أعدّها لينعَم بها أبناؤه، من غير أن يخطُر لبنان في بالهم.
ابن عمّي خونِّيتو قال لي حين وصل إلى بيتنا في الكورة: عندنا في كوبا… في هافانا الناس صادقون ومُخلصون، وليسوا كالناس عندكم في هذا اللبنان.
في هذه الحقبة الجامحة، المجنونة، المليئة بالمفاجآت والمفاجعات، يحتاج لبنان المعتَّر إلى رئيس جمهوريّة يكون هدفه الأساسي لبْنَنة اللبنانيّين، وترسيخ انتمائهم إلى لبنان من دون سواه. ومن دون الانتماء خِفية إلى خارج ما، ولسبب طوائفي، أو مذهبي، أو مالي، أو فائدة.
يقشعرُّ بدني أحياناً عندما أسمع مَنْ يسمّونهم مرجعيّات وهم يخطبون، أو يصرّحون، أو يناقشون دفاعاً عن بلد غريب على حساب لبنان، إن لم يكن نكاية بكل مَنْ يدافع عن لبنان.
دائماً، البلد الثاني قبل لبنان. والهويّة الثانية قبل الهويّة اللبنانيّة.
كم يُسعدني ويُفرحني إذا تمكّن يوماً الرئيس نبيه برّي من تخصيص جلسة نيابيّة للبحث في السُبل التي تساعد على لبْنَنة حمَلَة الهويّة اللبنانيّة أباً عن جد.