IMLebanon

رئيس لبناني من «تايوان»!

بحبور وشموخ٬ وقف الرجلان اللذان تقاتلا وتخاصما أكثر من 27 عاًما ­ ودفع اللبنانيون ثمًنا لنزاعاتهما الهوجاء٬ مئات القتلى وآلاف الجرحى ­ ليعلنا المصالحة «التاريخية» الكبرى. شربا نخب المحبة وسط محازبيهما وأمام الكاميرات٬ وكأنما لا عائلات ثكلى ترقب٬ ولا مصابون يتحسرون. لا ضير في التفاهم بعد خصومة٬ وفي الصلح بعد عداوة بين سمير جعجع وميشال عون. المعيب ألا يتم الحدث السعيد المبتغى إلا من أجل الوصول إلى رئاسة أو الحصول على حصة وازنة في انتخابات مرتقبة٬ وربما للانتقام من هذا أو الاقتصاص من ذاك. هراء أن يقال إن الاتفاق بين رجلي الحرب الأهلية العسكريين هو من أجل وحدة المسيحيين٬ وفي سبيل لم الشمل الوطني. ومن الإنصاف الاعتراف بأن عون وجعجع ليسا وحدهما من يتسلقان عذابات المواطنين٬ ويتذرعان بالمصلحة الوطنية٬ حين تناديهما المناصب والمكاسب.

أثبت الساسة اللبنانيون في الشهر الأخير٬ وهم يعيدون النظر بتحالفاتهم وينتقل واحدهم من مقلب «8 آذار» إلى «14 آذار»٬ وبالعكس٬ وكأنه يتأرجح على كرسي هزاز٬ ليلتحق بالتغيرات التي تزلزل المنطقة٬ أنهم من أعتى السياسيين العرب على الإطلاق. بمقدور هؤلاء حين تجمعهم المصلحة٬ أن يحدثوا الانقلاب الذي يريدون٬ ويعيدوا تشكيل الخريطة التي عليها يتفقون٬ ويطلقون عشرات التصريحات البلهاء٬ دون أن يرف لهم جفن٬ طالما أن الهدف هو بقاء الأشخاص٬ ولو تبدلت المواقع٬ وتباينت الحصص قليلاً.

من عجائب الدهر أن ينقسم فريق «14 آذار» على تأييد فرنجية أو ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وجاء جعجع ليكحلها٬ وهوُيسأل عن الفرق الجوهري بين الرجلين٬ فعماها. قال الحكيم: الأول أصيل في «8 آذار»٬ والثاني «تايواني». لم يمتعض الجنرال من تشبيه لا مرادف له سوى كلمة «مزور». يحاول الحكيم أن يرتق ما فتق٬ فيقول: الجنرال يشبهنا في مكان ما٬ ودخل متأخًرا إلى فريق «8 آذار». يطيب لك أن تصدق ما تسمع٬ لولا أنك تعرف أن الجنرال بات مرتبًطا باتفاقين متناقضين في العمق٬ ولا يمكنه أن ينفذ أحدهما إلا بالتخلي عن الآخر٬ وهو ما لا يستطيعه في الوقت الراهن.

كيف سيوفق الجنرال٬ لو جاء رئيًسا٬ بين النقاط العشر التي اتفق عليها مع جعجع٬ وتتحدث عن سيادة لبنان٬ وحصر السلاح بيد الدولة٬ و«ورقة التفاهم»٬ ذات الصيغة المقاومة حتى النخاع التي وقعها منذ عام 2006 مع حزب الله المدجج بالسلاح؟ ما أرخص الحبر وما أبخس الورق٬ في بلاد الأرز.

زعماء الطوائف اكتسبوا بفعل الدربة الطويلة٬ حنكة الثعالب. ومع الحاجة إلى إعادة التموضع٬ وبناء التحالفات٬ وتجديد الخيارات٬ باتت اللهجات الدبلوماسية الناعمة الملتبسة بالغموض٬ لمن اشتهروا بسلاطة اللسان٬ الدواء الأنجع. وزير الداخلية نهاد المشنوق كان أصدقهم حين اعترف بأن «قلة الحكي مفيدة أكثر».

خلف الصمت يتمترس الرئيس نبيه بري الذي سيكون آخر من يعطي رأيه مع أن ميله لسليمان فرنجية ليس سًرا. النائب طلال أرسلان يكتفي تفادًيا للحرج بالقول٬ إن «هذا ليس وقت الاصطفافات». حزب الكتائب تردد قبل أن يقول كلمته٬ وليعلن في النهاية أنه مع «رئيس صنع في لبنان»٬ غامًزا من قناة جعجع واعتباره مرشحه صناعة تايوانية. أظرف المواقف ذاك الذي صدر عن اللقاء الديمقراطي برئاسة وليد جنبلاط. لا يغضب الرجل أحًدا٬ يرحب بالتقارب الحاصل بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. يوافق على أن ترشيح عون يلتقي مع المواصفات التي تم الاتفاق عليها في هيئة الحوار الوطني٬ ويثمن كذلك٬ ترشيح سليمان فرنجية باعتباره مخرًجا من الأزمة. وفي الوقت نفسه٬ يستمر بترشيح هنري حلو الذي يمثل خط الاعتدال ونهج الحوار. هذه النفحة «الديمقراطية» المقنعة بلبننة خبيثة٬ لا تثني جعجع عن اعتبارها صادرة عن رجل اعتاد الميثاقية٬ ولا تمنع عون من الاتصال به لشكره على موقفه.

يبدو المشهد مسلًيا وطريًفا٬ في ظاهره٬ لكنه تراجيدي حين تستكنه البواطن والمكامن٬ ويصبح التملق والمراوحة سمتي المرحلة. الوقت قد يطول قبل انتخاب رئيس. فلقد بقي اسم الرئيس ميشال سليمان متداولاً ومتفًقا عليه منذ ديسمبر (كانون الأول) ٬2007 ولم ينتخب حتى مايو (أيار) ٬2008 وبعد عقد اتفاق متكامل في  رئيس. فلقد بقي اسم الرئيس ميشال سليمان متداولاً ومتفًقا عليه منذ ديسمبر (كانون الأول) ٬2007 ولم ينتخب حتى مايو (أيار) ٬2008 وبعد عقد اتفاق متكامل في الدوحة.

في الانتظار٬ خريطة التحالفات اللبنانية تنذر بمزيد من الانقلابات الجذرية في مقبل الأيام. المشهد يتحول٬ ليتناغم مع إعادة خلط الأوراق الذي تشهده المنطقة.

الاصطفافات تأخذ شكلاً جديًدا٬ والبيانات السياسية صارت تحتاج إلى حل على طريقة الكلمات المتقاطعة.

كل يبحث عن مكان يحميه شر الآتي٬ بالاتفاق مع خصم تاريخي٬ أو بالصمت وربما بالخديعة. استهلكت ورقة ترشيح سليمان فرنجية سريًعا٬ ويكاد زخم مصالحة معراب٬ ينطفئ٬ أمام تريث حزب الله ومعارضة مكتومة الصوت من جنبلاط وبري والحريري. الترشيحان المفخخان يحدثان تصدعات جسيمة في جسد التحالفات التقليدية. الآتي سيكون استعراضًيا وكاشًفا عن وجوه قبيحة٬ لكن اللبنانيين لن يتوقفوا عن السخرية من أنفسهم وقادتهم العظام٬ الذين تمسكوا أبًدا بمبدأ واحد لا محيد عنه: «لا شيء أهم من الكرسي٬ ولا غواية تعلو على شهوة السلطة».