الوضع الداخلي اللبناني لم يعد يحتمل المزيد من التأجيل للملفات والقضايا الطارئة ولا حتى تلك المتراكمة منذ زمن. لا تستطيع الطبقة السياسيّة اللبنانيّة مواصلة سياسة إدارة الظهر لكل تلك الملفات وإشاحة النظر عن ضرورة إحداث تغيير جدي ومطلوب على مختلف المستويات.
المسألة الأولى تتصل بطبيعة الحال برئاسة الجمهوريّة المؤجلة منذ أكثر من سنة ونصف والتي يمكن معالجتها بمجرّد توفر الإرادة السياسيّة المحليّة قبل انتظار إرادة الخارج، أو بشكل أدق، «إرادات» الخارج التي لا يبدو أنها «تقاطعت» على تسوية حتى اللحظة الراهنة.
ولكن، لا يمكن مواصلة سياسة المراوحة القاتلة، وربما آن الأوان لكل الأطراف لمغادرة المربعات السياسيّة التي سجنت نفسها فيها (وسجنت البلاد معها) من خلال التمسك «الأبدي» بمرشحين معينين دون سواهم. وإذا كان الرهان السياسي عند البعض ارتكز على تجربة «إنهاك» الأطراف بهدف إيصال مرشح بعينه (مثلما حصل لانتخاب الرئيس ميشال عون) فواضح أنّ هذا السيناريو سوف يصعب تكراره للعديد من الأسباب.
على افتراض أن ترشيح رئيس «تيار المرده» الوزير السابق سليمان فرنجيّة لا يحظى بالدعم الكافي، وأن الأمر ذاته ينطبق على الوزير السابق جهاد أزعور الذي «تقاطعت» على ترشيحه قوى المعارضة في لحظة سياسيّة (رغم تمتعه بالكفاءة المطلوبة)، إلا أنّ الأحداث تجاوزت تلك اللحظة؛ لذلك لا مفر من التفتيش على مرشح ثالث.
ويحق للمواطن اللبناني العادي أن يتساءل: ما العيب في البحث الجدي عن «خيار ثالث»؟ ولماذا هذا التعنت في رفض الفكرة أو مناقشتها أو دعوة المجلس النيابي للانعقاد لبلورتها وربما ترجمتها في صندوق الاقتراع؟ إلى متى سيبقى البلد رهينة هذه الحسابات المصلحيّة الفئويّة الخاصة؟
صحيحٌ أنّ الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة لم تكن يوماً بمثابة «المنازلة» الديمقراطيّة الحقيقيّة كما من المفترض أن تكون (باستثناء التجربة «اليتيمة» في انتخابات العام 1970)، ولكن الصحيح أيضاً أن ثمّة حاجة حقيقيّة لإعادة الاعتبار للفكرة الديمقراطيّة وذلك من خلال طرح ترشيحات معيّنة والذهاب إلى التصويت في المجلس النيابي.
وطالما كانت النظرة اللبنانيّة السائدة لهذه المقاربة تعتبرها سطحيّة وغير مجدية، طالما استطال الفراغ عند كل منعطف دستوري وليس فقط في محطة الانتخابات الرئاسيّة كل ست سنوات. الديمقراطيّة تتكرّس بالممارسة وليس بالشعارات الفارغة والفضفاضة التي تُطلق في كل مناسبة ومن ثم يُمارس عكسها.
لقد آن أوان البحث الجدي عن مرشح ثالث يمكن من خلاله النفاذ نحو الخروج من مستنقع المراوحة المقيت الذي يُكلّف البلاد والعباد الكثير، والصفات التي تُطلق على هؤلاء تنطبق على كثيرين في لبنان من أبناء الطائفة المارونيّة طالما أن توزيع المناصب الرئاسيّة قائم على الأسس الطائفيّة والمذهبيّة.
إذا كانت جبهة الجنوب المشتعلة التي تنذر بتوسع خطير قد لا تُحمد عقباه، وواقع الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق، وانفجار مرفأ بيروت، وسوى ذلك العديد من القضايا المفصليّة الكبرى؛ إذا كانت كل تلك الاعتبارات لا تدفع الأطراف السياسيّة للتحرّك نحو ملء الفراغ الرئاسي، فما الذي قد يدفعها لذلك؟
الخروج من المأزق الرئاسي بات يتطلبُ مبادرات جديدة، ومقاربات جديدة، بحيث لا يُكرّر المشهد السياسي اللبناني نفسه بصورة يوميّة في لحظة شديدة الحساسيّة والخطورة على الصعيد الإقليمي، وفي وقت تتصاعد فيه التهديدات الإسرائيليّة ضد لبنان بشكل غير مسبوق وتتوسع دائرة الاعتداءات على مناطق مختلفة في لبنان.
الحلول دائماً متوفرة، ولكن المطلوب تبلور إرادة سياسيّة جديّة لإنهاء حالة المراوحة القاتلة.