Site icon IMLebanon

لعب «تحت الطاولة»

 

كان من المتوقع ان يشهد شهر آب تراجعاً على مستوى الحركة حول الملف الرئاسي اللبناني أكان داخلياً او خارجياً، كونه شهر الإجازات الصيفية، لكن ثمة ما هو غريب، لا بل مريب، مع هذا الهدوء الكامل المسحوب بصمت مطبق لم يبدّده الطلب الفرنسي المهين بالإجابة خطياً عن أسئلة محدّدة وقبل نهاية شهر آب، والموجّه إلى المجلس النيابي اللبناني. فلقد علّمتنا التجارب التي يحفل بها تاريخنا الصعب، أنّ الهدوء والصمت يحجبان في كثير من الأحيان، إما مفاجآت غير سارة، او وضع الملف اللبناني على الرف، على الأقل في المرحلة الراهنة. فهل على اللبنانيين ان يقلقوا، خصوصاً انّ التعقيدات تتكاثر وتتزايد على مستوى المنطقة؟

خلال الاسابيع الماضية وتحديداً خلال فترة حزيران وتموز، والتي شهدت اجتماع اللجنة الخماسية في العاصمة القطرية، كان هنالك همس دولي بوجود قرار حاسم بإنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني قبل أفول سنة 2023 وبنحو اكثر تحديداً في أواخر فصل الخريف. وتحت هذا العنوان جاء انعقاد اجتماع الدوحة، لكن الزخم الذي واكبه ولو كان ضمنياً او غير ظاهر، اختفى خلال الأيام الماضية. فهل السبب يتعلّق بشهر الإجازات أم انّ هنالك ما هو أخبث؟

 

في الإطلالة الأخيرة للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، لم تكن هنالك اي مفاجآت غير متوقّعة، فالخطاب جاء في إطار استيعاب حادثة الكحالة وما تلاها، رغم بعض العبارات الحادة. لكن السياق كان استيعابياً وليس صدامياً او تعبوياً. لكن الحادثة كشفت مرّة جديدة حقائق صعبة وخطيرة عن الساحة اللبنانية، أبرزها على الإطلاق هشاشتها والحساسية الطائفية المرتفعة، والتي غذّتها ولا تزال المخاوف الضمنية من تحلّل الدولة اللبنانية والخوف المكبوت من سعي «حزب الله» ونيته لإحكام قبضته على الدولة بكاملها وإعادة بنائها على قياسه.

 

ومع استمرار حال الانهيار في البلد، وسط توقعات بعودة التدهور النقدي مع نهاية أيلول المقبل، فإنّ تكرار حادثة الكحالة ولو بأشكال مختلفة، قابل للحصول كل يوم وكل ساعة.

 

وبغض النظر عن التحذيرات التي استفاض بها السيد نصرالله، إلاّ أنّ الجميع يعرف أنّ الحرب الأهلية غير واردة على أرض الواقع لأسباب عدة، أبرزها عدم وجود توجّه دولي في هذا الاتجاه. وبالتالي يدرك «حزب الله» انّه ملزم بالخضوع للتوازنات الدقيقة للتركيبة الطائفية والمذهبية في لبنان، من اجل إعادة تأمين مظلّة حماية لتركيبته العسكرية والأمنية.

 

واستطراداً، فإنّ حادثة الكحالة وبشيء من التمعن، كشفت غربة كاملة للشارع المسيحي عنه، وبطبيعة الحال غربة عن الساحة الدرزية كانت قد ظهرت في مناسبات سابقة، وايضاً غربة طبيعية عن الساحة السنّية بسبب النزاع الإقليمي الذي لا يمحوه اتفاق بكين بين السعودية وايران، بل يخفّف من حدّته فقط. ولا بدّ من أن تكون هذه الصورة تُقلق قيادة «حزب الله».

 

ومن هنا ثمة من يقرأ في نتائج حادثة الكحالة مزيداً من النقاط لمصلحة تقصير المسافة مع النائب جبران باسيل، الذي يسعى لاقتناص الفرصة واختطاف اللحظة.

 

السيد نصرالله وصف حوار «حزب الله» مع قيادة «التيار الوطني الحر» بالجدّي والإيجابي، ولو انّه يحتاج لبعض الوقت. والمعروف عن الامين العام لـ«حزب الله» انّه يختار كلماته بعناية وانّه يقصد ما يقول. فما المقصود فعلياً من توصيفه للحوار الحاصل؟

 

الواضح أنّ باسيل لا يزال يرفض فعلاً ترشيح سليمان فرنجية، حتى ولو أبدى موافقته على ذلك شكلاً، بهدف إعادة فتح قنوات الحوار مع «حزب الله». وهو عبّر عن رفضه بأشكال مختلفة كان آخرها في التغريدة التي كتبها تعليقاً على حادثة الكحالة، وفي الوقت نفسه يعمل على إبعاد شبح قائد الجيش العماد جوزف عون عن الملف الرئاسي، بعد ظهور الدعم الإقليمي والدولي له من خلال تبذير الوقت إلى حين الوصول إلى العاشر من شهر كانون الثاني المقبل. وبالتالي فإنّ تراجع التأييد الفرنسي لفرنجية واتضاح الموقف السعودي المعارض، جعلا باسيل يتقدّم في سعيه لإقفال الطريق على العماد جوزف عون، من دون العمل جدّياً على فتح الطريق أمام فرنجية. الواضح أنّ باسيل يريد مبادلة إعادة علاقته مع «حزب الله» بالذهاب إلى خيار جديد يؤمّن له مصالحه داخل التركيبة القادمة في السلطة.

 

وبالتالي، فإنّ ما يُطرح في العلن حول المفاوضات «الجدّية» الدائرة وفق توصيف نصرالله يختلف عنه في الغرف المغلقة. ففي الأساس فإنّ بند اللامركزية الذي يلاقي رفضاً حاسماً لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري خصوصاً في شقّه المالي، لم يُسجّل ان يُطرح بجدّية ولا أي مرة طوال ولاية الرئيس السابق ميشال عون، لا بل انّ ولوج هذا الملف كان ممكناً حصوله بسهولة وتلبية لمطالب اللبنانيين، مع ملف الكهرباء وإنشاء دوائر عدة على طريقة كهرباء زحلة. لكن باسيل لم يعلن رفضه فقط، بل حارب المشروع وكان يضغط يومها لجلب باخرتين جديدتين لتوليد الطاقة لتشغيلهما إلى جانب الباخرتين الموجودتين. واستطراداً فإنّ المطالبة هنا باعتماد اللامركزية يصبح مطالبة سياسية اكثر منها مطالبة حقيقية. وقد يكتفي باسيل هنا بنيل تأييد اعلامي لمطلبه، في حال نجح في انتزاع موافقة «حزب الله» على مطلبه الحقيقي والمتعلق بالتفاهم على مرشح آخر مع ضمان الحصّة الوازنة التي يريدها من كعكة السلطة.

 

وفي الكواليس الديبلوماسية همس حول انّ هذه المفاوضات شهدت مطالبة باسيل بأن تكون له كلمة أساسية في تعيينات حاكمية المصرف المركزي وقيادة الجيش ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء والمواقع الأساسية في الادارة، الى جانب تمسّكه بالاحتفاظ بوزارة الطاقة، وملمّحاً إلى تعيينات له داخل وزارة المال، كمثل مدير عام وزارة المال ومواقع اخرى. كما انّ باسيل لمّح الى اسم جديد لموقع رئاسة الجمهورية لم يجرِ التداول به اعلامياً بنحو واسع حتى الآن. وصحيح انّ «حزب الله» ما زال حتى الساعة يعلن أنّ مرشحه الوحيد هو سليمان فرنجية، لكن هذا لم يمنعه من الاستماع الى مطالب باسيل، في وقت جلس ينتظر تسوية كاملة، وهو الذي لا يزال ينتظر تسوية كاملة مع الاميركيين تشمل رئاسة الجمهورية والعناوين العريضة للمرحلة المقبلة.

 

لكن باسيل يسعى لتسويق مرشحه على اساس انّه سيحظى برضا الفاتيكان، ما يساعد في إعادة انتاج مناخ جديد لعلاقة «حزب الله» مع الساحة المسيحية والاوساط الدولية، وهو ما سيساهم في انتزاع موافقة اميركية.

 

لكن «حزب الله» يدرك انّ المسار متعرّج وصعب وغير مضمون، والاهم الموقف الخليجي وتحديداً الموقف السعودي منه ومن «التيار الوطني الحر»، وموقف الشريك الشيعي، اي بري المتحسس دائماً من باسيل، ما يستوجب الحذر. وقد يكون ما يريده «حزب الله» بالدرجة الاولى، تسوية دولية مع الطرف القادر على ضمان ذلك، والمقصود واشنطن التي لم تتحرك بعد.