IMLebanon

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

 

سوف يمضي وقت طويل قبل أن تستقر انعكاسات نتائج الانتخابات النيابية التي أُجريت يوم 6 أيار (مايو) الحالي. فالمنتصرون، بالعدد والنوعية الحزبية والسياسية، يعلنون أنهم استحقوا نصيبهم، ولا يريدون أكثر، أما الفائزون بالحد الممكن من الطموح الذي كانوا يتطلعون إليه فإنهم يدعون الى القبول بالأمر الواقع، والعمل بالعقل والوعي الوطني للحفاظ على الاستقرار في البلاد، مع تجنيد كل الطاقات المتوافرة لتجاوز المرحلة الى الأفضل، على الأقل، فهل يلتزم الآخرون حدود النصر الذي بلغوه فلا يجعلونه سيفاً يهددون به من لا يجاريهم؟ هذا ما يتمناه العقلاء، وهم ليسوا قلائل في الجانبين، خصوصاً أن دول أوروبا الصديقة للبنانيين حريصة على تأكيد حضورها الى جانبهم، وإن بالغوا في إظهار عواطفهم، فالسفير الفرنسي برونو فوشيه هنأ اللبنانيين بـــ «قوة ديموقراطيتهم»، ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي أنجيلينو ألفانو أشاد بـــ «تمسّكهم المعهود والدائم بقيم الحرية والديموقراطية».

 

 

لكن موعد الاختبار قريب، وهو يتمثل في تشكيل «حكومة العهد» الجديدة. فالرئيس ميشال عون المنتخب في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 يتطلّع الى حكومة تمثل عهده، وإن يكن المجلس النيابي الذي تنتهي ولايته هو الذي انتخبه.

 

أي حكومة يريد العهد من المجلس الجديد؟ هذا ما يشغل بال اللبنانيين، مع أن رئيس الحكومة الحالية سعد الحريري علّق على نتائج الانتخابات بجملة قصيرة مفيدة «لقد انتصر مشروع الأمل بالمستقبل»، ولم يتوقف عند المفاجأة التي أطلقها وزير الخارجية والمغتربين، أو المنتشرين، يوم أعلن إلغاء اسم «التيار الوطني للتغيير والإصلاح» ليــصبح «تـيـار لبـنان القوي»، لكن الوزيـر لم يـوضح ما إذا كان يعني «لبنان القوي» أم «التيار القوي»، وفي الحالين «القوي» هو المعني بالاسم الجديد، أو العنوان الجديد، خصوصاً أن النواب الجدد الذين انضموا الى المجلس يشكلون نصف العدد الإجمالي، ومن ضمنه ستة وجوه نسائية لامعة في العلم والإعلام والثقافة والخدمات الإنسانية.

 

يوم كانت كاميرات التلفزيون تنقل لقطات من عمليات الاقتراع في أقطار المغتربين، كان المتابعون في الوطن الأم ينتظرون وجهاً يخاطبهم، ويبشرهم بلبنان جديد، لكنّ وجهاً ظهر أمام الكاميرا الانتخابية في عاصمة دولة أوروبية مشهود لها بقيم الحرية والمدنية والديموقراطية، وخاطب أهله ومواطنيه في الوطن الأم قائلاً: أنا هارب من وطني الأول الى وطني هذا بسبب الأحزاب التي فعلت ما فعلت وتفعل في الوطن الأول، فكيف يمكنني أن أصوّت لتلك الأحزاب الآتية الى بلاد الديموقراطية لتلاحق من هربـوا منـها. ولذلك جئـت لأقول ما قلت!

 

ربما كان ذلك الوجه من وجوه الجماهير التي كانت تملأ ساحات العواصم العربية، وأولها بيروت، وتطلق الصيحات المدويّة «الموت لأمريكا» ثم تعود لتستريح على بطالة وفوضى، وعوز. ولعلّ ذلك الوجه عينه قد حالفه الحظ بالوصول الى أوروبا في ذلك الزمن، والإقامة فيها حتى الاندماج في نسيجها المدني.

 

وفي ذلك الزمن كان لبنان ملاذ الثورة الفلسطينية بكامل منظماتها وفصائلها، وكادراتها وأسلحتها، ومعداتها الثقيلة، قبل أن تواجه مع الأحزاب والقوى اللبنانية اليسارية والوطنية، والمتطوعين من دول عربية وآسيوية، في ربيع 1982، الزحف الإسرائيلي المسند بالأساطيل الجوية والبحرية فتصمد أمامه بكل ما تملك من إمكانات حتى اللحم الحي، وظلّت تقاوم وتستشهد، حتى الفوج الأخير، قبل أن تجد نفسها ملزمة بأحد خيارين: الصمود حتـى آخر شهيـد، أو مغـادرة لبنان الى بلاد عربية بعيدة. وفي ذلك اليوم الأسود خرج ياسر عرفات على رأس من بقي من رجال منظمة التحرير الى البحر نحو شمال أفريقيا حيث توزعت فصائل المنظمة، واستقرّت القيادة في تونس.

 

ولم تمض سنة حتى ظهر «أبو عمار» زائراً في مدينة أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، وصادف أن كنت هناك في مهمة صحافية، وكان لا بد لعرفات من أن يدعو الى مؤتمر صحافي عُقد في «دار الضيافة»، وفي ذلك المؤتمر استعاد أبو عمار… أيام الزحف الإسرائيلي والمقاومة من حدود جنوب لبنان حتى بيروت. وعلى عادته رحمه الله، انتفض على المنبر ورفع يده مطلقاً صوته متوعداً بالعودة الى جنوب لبنان لإعادة بناء التحصينات مع المقاومين اللبنانيين حتى تحريره من رجس الاحتلال الإسرائيلي.

 

وفي ذلك المؤتمر وقف من يخاطب «الختيار» القوي، العفوي: يا أبو عمار… جنوب لبنان له أهله وشعبه وجيشه، ومقاومته الوطنية منتشرة في جنوب أرضه، والشهداء لهم من يخلفهم بالسلاح، وأنت ورفاقك المجاهدون وفيتم قسطكم في الجهاد والتضحية على أرض الجنوب.

 

وإذ فوجئ أبو عمار بما سمع ركز نظره على الصحافي المتكلم، ثم نهض ومشى نحوه قائلاً: رفاق كمال جنبلاط لا يقولون هذا الكلام.

 

وقال الصحافي: كمال جنبلاط استشهد غدراً برصاص النظام السوري، ومضى فداء عروبة لبنان وقضية فلسطين، ولو بقي حيّاً لكان انضم الى أهل الجنوب في مواجهة الزحف الإسرائيلي، وهو الذي استهل دوره في مجلس النواب في مطلع الأربعينات من القرن الماضي بالدعوة الى إنشاء «حرس وطني» يتألف من كل الطوائف والمذاهب والمناطق والفئات الشعبية لينتشر على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، على أن تكون أفواج الحرس بإشراف قيادة الجيش، تدريباً، وتنظيماً، وإعداداً.

 

ذلك البند الأساسي في برنامج كمال جنبلاط ظلّ يتردد ويتكرر في خطبه، وفي مقالاته الصحافية، وفي المذكرات الإصلاحية التي تابعها حتى حرب 1967. وإذ يعود مشروع «الحرس الوطني» في الجنوب الى الذاكرة السياسية يتساءل المعنيون بالأمر إذا كان رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون يجد في اقتراح هذا المشروع ما يدعو الى النظر فيه واعتماده.

 

حالياً يحتاج الأقطاب اللبنانيون، رؤساء، ووزراء، ونواباً، وقادة أحزاب، الى فترة زمنية يلجأون خلالها الى تحكيم عقولهم، لا عواطفهم، لتحديد أولويات مسؤولياتهم.

 

وإذا خطر لهم أن يعودوا الى ملفات التراث السياسي الذي تركه بعض أسلافهم في النيابة والوزارة فسوف يجدون ما قد لا يخطر في بالهم، وقد ينزل في حسابهم.

 

وربما كان من المفيد لبعضهم أن يطّلع على وثيقة تاريخية تتضمن برنامج عمل للمرشح الذي كان مقرراً أن تختاره «الجبهة الإشتراكية الوطنية» لرئاسة الجمهورية في معركة 23 أيلول (سبتمبر) 1952.

 

كانت «الجبهة» مؤلفة من النواب: كمال جنبلاط (أمين السر العام) وكميل شمعون، ريمون إده، بيار إده، إميل البستاني، غسان تويني، أنور الخطيب، عبد الله الحاج، ديكران توسباط. وكان اجتماعها في منزل النائب ديكران توسباط في عاليه التي كانت «العاصمة الصيفية» للجمهورية. وقد تلا جنبلاط نصّ الوثيقة المرشحة لتكون برنامج عمل الرئيس الذي سيفوز بالانتخاب، وكان كميل شمعون مرشح الجبهة الرئاسية، وهذا نصّها:

 

  • أولاً: ضمان استقلال لبنان وكيانه، وعدم التحيّز لدولة أجنبية، والمحافظة على العلاقات الودية مع جميع الدول الكبرى.

 

  • ثانياً: التحرّر من العائلية، ومن تأثير مكتب الرئاسة، ومن المحسوبية.

 

  • ثالثاً: التحرّر من كل وضع استغلالي للنفوذ والمال.

 

  • رابعاً: قفل مكتب المحاماة لمرشح رئاسة الجمهورية بعد انتخابه.

 

  • خامساً: تنفيذ برنامج الجبهة الاشتراكية الوطنية، بخاصة البرنامج الذي جرى الإضراب على أساسه (إضراب أيام 15 و16 و17 أيلول (سبتمبر) 1952، وهو الإضراب الذي عمّ كل المحافظات والمدن، وكان وقفه مشروطاً باستقالة الرئيس بشارة الخوري والذي قد استقال ليلة 27-28 أيلول (سبتمبر) 1952، وسجل اللبنانيون أول حركة شعبية في العالم العربي تنجح بإسقاط رئيس الجمهورية من دون «ضربة كف».

 

  • سادساً: تعديل قانون الانتخابات على أساس الدائرة، وحلّ المجلس النيابي.

 

  • سابعاً: إلغاء النفقات السرية في جميع دوائر الدولة، ما عدا وزارات الداخلية والمالية، والخارجية.

 

  • ثامناً: التوظيف والترقية لا يحصلان إلا على أساس الكفاءة، والامتحان.

 

  • تاسعاً: لا يتصل رئيس الجمهورية، ولا يستقبل أحداً من الموظفين من دون واسطة الوزراء… يلي الأحكام، ولا يحكم.

 

  • عاشراً: لا يوافق رئيس الجمهورية بتاتاً على تعيين أحد الأشخاص الملوثين لمنصب وزاري، وغير وزاري، وعدم التقيّد بقواعد الطائفية.

 

  • حادي عشر: تنفيذ المبدأ التالي: عدم القيام بعمل ينافي التصريحات والانتقادات السابقة الصادرة عن «الجبهة الاشتراكية الوطنية».

 

وبعد انتهاء جنبلاط من تلاوة الوثيقة طرح المرشح الرئاسي كميل شمعون سؤالاً عن موقف «الجبهة» من الارتباط مع رئيس الدولة في المستقبل، فاستأذن كمال جنبلاط للجواب باسم الجبهة، فأوضح: إن الارتباط مع رئيس الدولة يكون وفق ما يرتبط رئيس الدولة ببرنامج الجبهة وتوصياتها.

 

وهنا أخذ شمعون الوثيقة ووقعها بصفته مرشح «الجبهة» للرئاسة، ثم وقّعها جنبلاط، والأعضاء النواب الحاضرون، بصفتهم شهوداً… ووقف الجميع وراحوا يصافحون مرشحهم فخامة الرئيس كميل شمعون. وقد نال في جلسة الانتخاب 74 صوتاً من أصل 76.

 

ووُجدت ورقتان بيضاوان في صندوق الاقتراع…

 

هي ورقة للتاريخ، لعلها صالحة للمراجعة.

 

* كاتب وصحافي لبناني