«السفير» لن تتوقّف عن الصدور! أهكذا، بسحر ساحر، حدثت المعجزة وتبدد الكابوس؟ حين بدأت المواقع والمحطّات تتناقل هذا «الخبر الأوّلي» قبل ظهر الأحد، تنفسنا الصعداء بعدما كان كثيرون بيننا يستعدّون للمراثي. قفزنا فوق الأسئلة المعلّقة، وصدّقنا بلا تردد.
كيف يطلع الصباح على بيروت، من دون صوت ناجي العلي ترجّع صداه المدينة وسط أطلال الروح؟ من يتقبّل بهذه السهولة اختفاء جريدة انتظرناها كل صباح عمراً كاملاً، لتوقّع حياتنا وتطبع ذائقتنا، وتصنع الحدث، وتؤطر النقاش، وتصنع شرعيّة القوى السياسيّة، وتطلق الشعراء وتواكب صعود السينمائيين وتحتضن المواهب والأفكار والأحلام، وتساهم في صياغة وعينا وتحديد مواقفنا في المواجهات المصيريّة التي تشهدها المنطقة منذ أربعة عقود ونيّف؟ لكل ذلك، نميل اليوم إلى التشبّث بحبال الأمل، علماً أن القلق لم يتبدد تماماً، لحظة كتابة هذه السطور.
على شفا الإعصار تقف زميلاتنا ويقف زملاؤنا في «السفير»، بعدما استسلموا للإحباط ودخلوا في أزمة وجوديّة، يتنازعهم الغضب والحيرة وعدم الفهم، والاتهامات الجارحة، والأسئلة المصيريّة، والشكوك المستقبليّة، والمراجعات المهنيّة. لقد وجدوا أنفسهم فجأة أمام الفراغ، وأخذوا يتهيأون لفكرة التضحية بإنجازات مرحلة أساسيّة (تقصر أو تطول) من مسيرتهم الصحافيّة، بل من حياتهم… كما راحوا يستعدون لخوض معركة حماية حقوقهم الماديّة والمعنويّة التي قد تكون موجعة، وتترك لطخات سوداء على السجلّ الذهبي للصحافة اللبنانيّة. هل سيستعيدون الآن الثقة والاستقرار والزخم، أم سيدخلون مرحلة مضطربة، مفتوحة على المجهول؟
ثم هناك طلال سلمان، الأستاذ والأب المؤسس. الصحافي العصامي الذي خلق هذا المشروع الإعلامي الطموح، واستقطب الكفاءات والأسماء الكبرى، جاعلاً من جريدته منبراً أساسيّاً مؤثراً في الحياة السياسيّة المحلية والإقليمية، ومدرسة فريدة خرّجت الصحافيين والكتّاب والمثقفين، وصقلت الأصوات، وواكبت الحقب والعهود، وخاضت الرهانات الجريئة والمواجهات الكبرى بنجاح يشهد عليه الجميع. يعزّ عليه، بلا شك، أن يفرّط بهذا التراث العريق. ونراهن أنه عاش في الآونة الأخيرة حالة صراع مريرة، بين الحرَفي المثقف الذي ينتمي إلى الناس، والقطب الإعلامي الذي طبّق «القواعد اللبنانيّة» في إدارة المؤسسات الصحافيّة، وكأي ربّ عمل وجد نفسه يستأثر بوسائل الإنتاج ويحمي مصالحه على حساب قوّة الإنتاج التي صنعت نجاحه.
حتى الآن تجنّبنا الزلزال الذي كان سيحدثه المؤتمر الصحافي الذي دعت إليه إدارة «السفير» يوم غد الأربعاء (وقد أعلن الناشر «تأجيله»). كانت الخاتمة المأسويّة ستصيب بدرجات مختلفة أهل المهنة جميعاً، كما تصيب الشركاء الفعليين لجريدة رفعت لواء العروبة وفلسطين، وأرادت نفسها «صوت الذين لا صوت لهم»: أي جمهور القرّاء الذين عاصروا «السفير»، وتربّوا عليها، في لبنان والعالم العربي. كنا نسير نحو فاجعة وطنيّة معلنة. إن انهيار هذا الصرح، بمعزل عن الدوافع الإداريّة والماليّة، ستكون له انعكاسات سلبيّة على المشهد السياسي، والمشهد الإعلامي برمّته.
لا تنحصر أزمة «السفير» بمؤسس الجريدة، مالك أكثريّة أسهمها مع عائلته. «السفير» ملكنا جميعاً، وهي جزء من تراثنا غير المادي، ولو أننا نعيش في ظل دولة مؤسسات، وحكومة معنيّة بالمصلحة العامة، ووزارة إعلام جديرة بالاحترام، وقوانين عصريّة وحديثة… لو أن هناك نقابة حقيقيّة لأصحاب الصحف (لا لأصحاب الامتيازات الوهميّة)، ونقابة محررين وصحافيين تمثّل المهنة وأهلها وتحرص على مستقبلها وتحمي النوعيّة والقواعد والأصول، كما تحمي حقوق العاملين فيها… لاتخذت أزمة «السفير» مناحي مختلفة تماماً. لكنّ الجريدة التي أعطتنا ما أعطته منذ العام 1974، تسدي إلينا، في أزمتها الراهنة، خدمة إضافيّة جليلة: إنها المرآة التي تعكس بؤسنا وانحطاطنا، وتَفكك مجتمعنا، وانهيار مؤسساتنا، وسياسات الفساد وقصر النظر وغياب الشفافية والمحاسبة، والاقتصاد الطفيلي القائم على الربح السريع، وثقافة الخدمات والمقاولات، والوعي الريعي، وعلاقات سفاح القربى بين السياسة والاقتصاد، بين السياسة والقضاء، بين السياسة والدين، بين السياسة والإعلام… الإعلام اللبناني يتحمّل اليوم عواقب الجمهوريّة المريضة. هذه الأزمة تبلغ ذروتها مع انحسار المال السياسي، وشح سوق الإعلانات، وانفضاض القرّاء بسبب أزمة الثقة بينهم وبين إعلام قديم مترهّل لم يعد يشبههم، بل يمثّل مصالح النظام السياسي المسؤول عن بؤسهم، في أبشع تجلياته وأكثرها عقماً.
لم تعد قضيّةَ «السفير» وحدها. الأمر يتعلّق بمصير الصحافة اللبنانيّة التي أوشك طلال سلمان مكرهاً، أن يفتح أمامها أبواب جهنّم، فيشدّ كثيرين معه إلى الأسفل. التفرّد بقرار إعلان «موت» الصحافة اللبنانيّة والعربيّة، يشوّش الرؤيا، ويختزل النقاش الصعب، ويموّه المعطيات، ويعفي من النقد الذاتي، ويغلق باب المحاسبة. بل إن خطوة كهذه تضرب صناعة الصحافة، وتخلخل قطاعاً مهنياً كاملاً، بمختلف مكوناته واختصاصاته وتفرّعاته. والتفرّد في البحث عن مخارج أيضاً، لن يفضي إلا إلى خلاص موقت. الحل بالانتقال من الفرديّة إلى المشاركة، ومن نمط الإنتاج العائلي البطريركي، إلى عقليّة جديدة في الإدارة. الحل في اندماج صحف ومحطات ومواقع ربّما. الخلاص في مؤسسات حديثة تديرها مجالس إدارة ويملكها مساهمون مختلفون إلى جانب المؤسس، وتساهم في ملكيّتها جمعيّة الأصدقاء والقرّاء، وجمعيّة العاملين صانعي الجريدة المؤتمنين على رصيدها المعنوي.
ربّما آن الأوان لمواجهة تلك الأزمة بجرأة، بدلاً من الهرب إلى شتّى الأعذار والتبريرات والتعميمات. كلا، ليس الإنترنت هو المسؤول وحده. ليس موت القارئ، ولا نهاية الصحافة الورقيّة. هذه الأخيرة أمامها حياة طويلة، إذا عرفت كيف تتجدد، وتأخذ بمتطلبات التقدّم، وتتكامل مع وسائل التواصل الجديدة. ما تواجهه «السفير»، وكل الصحف اللبنانيّة ونحن منها، هو موت نمط إنتاج معيّن، طريقة معيّنة في صناعة الصحافة الورقيّة، في ملكيّتها وإدارتها وتمويلها وتسويقها، في شكلها ومضمونها، في مشاغلها الفكرية وشرعتها الأخلاقيّة، في علاقتها بالواقع وانتمائها إلى الناس والمسافة النقديّة بينها وبين السلطة… هل تعي الصحف اللبنانيّة أمثولة «السفير» قبل فوات الأوان؟ وإلا فلن يبقى للرأي العام إلا برامج استعراضيّة بائسة، ومواقع اجتماعيّة تحتلّها «فيالق من الحمقى» بتعبير أمبيرتو إيكو، ومواقع إنترنت تتناقل الأخبار التحريضيّة، وتتاجر بالإثارة الرخيصة.