في زيارة له لباريس في الثمانينات٬ دعاني الزميل طلال سلمان إلى العشاء. وعرض علّي العودة إلى بيروت للعمل معه في صحيفة «السفير». وللدلالة على عمق علاقته بنظام حافظ الأسد٬ تعهد بأن «يصلح خطوطي مع النظام السوري»!
استغربت الدعوة. فلم أكن بحاجة للعودة إلى لبنان. فقد كنت أعمل رئيًسا للقسم السياسي في مجلة «كل العرب» الأسبوعية المهاجرة إلى باريس. ولم أكن أرتبط بصداقة مع الزميل طلال. كان التعارف قد تم بيننا في بيروت٬ عبر الصديق والزميل المشترك عباس بدر الدين رئيس تحرير وكالة «أخبار لبنان» الموالية للسيد موسى الصدر الزعيم الشيعي الديني الذي كان يحاول سحب شباب الشيعة من الأحزاب السياسية٬ والعودة بهم إلى جيب الطائفة.
وفي زيارة باريسية أخرى للزميل طلال٬ ذهبت للترحيب به. فكان لقاؤه جاًفا للغاية! ربما لأنه لم يكن يرغب في أن يتم٬ بحضور ثلاثة صحافيين سوريين محسوبين على نظام الأسد٬ كانوا برفقته. وبينهم الزميل الراحل ياسر عبد ربه٬ والد وضاح رئيس تحرير صحيفة «الوطن» التي أصدرها في دمشق المتمول رامي مخلوف ابن خالة بشار الأسد.
أروي الحادثة لسببين. الأول لأن السيد الصدر والزميل عباس اختفيا خلال زيارتهما المشؤومة لمعمر القذافي في ليبيا (1978). ولا أدري لماذا يصمت السيد نبيه بري (الذي ورث من الصدر رعايته لمنظمته الطائفية «أمل») عن الإعلان الحاسم لنتائج تحقيقاته بعد الانتفاضة الليبية٬ فيما إذا كان الصدر على قيد الحياة. أو ما زال مختفًيا. أو عاد سًرا إلى إيران.
والسبب الثاني أن الزميل طلال لم يختِف في ليبيا عندما زارها قبلهما بعدة سنوات٬ كصحافي موفد من مجلة «الصياد» اللبنانية. فقد خدمه الحظ. وفرك الخاتم في إصبع المارد. وتلقى الجواب: «شبيك. لبيك. أنا الأخ معمر بين يديك». وعاد من ليبيا ليصدر صحيفة «السفير» في عام انفجار الحرب اللبنانية (1975).
«السفير» اليوم في أزمة. ويبدو أن الناشر طلال سلمان عاجز عن إنقاذها. ولم يحسم أمره تماًما بإغلاقها. أو اختصار صفحاتها. أو تحويلها نهائًيا إلى موقع هلامي على شاشة الإنترنت. هذا التردد أدى إلى خلاف بينه وبين محرريه. وإدارييه. وعماله٬ حول التعويضات والأجور غير المدفوعة.
عملت في الصحافة اللبنانية بين عامي 1964 و1977. وقلبي اليوم مع مئات المحررين الذين عرفت بعضهم٬ سواء في لبنان. أو الذين عملوا معي في باريس ولندن. الصحافة لا جنسية لها. فلم يعيرني أحد منهم بأنني سوري. المحرر اللبناني على جانب كبير من الحرفة. والتضحية. والوعي. خدم بعضهم في الخليج.
فساهموا في تطوير الصحافة العربية.
مع ولادة كل صحيفة جديدة جادة٬ حياة لي. وأشعر بالحزن مع موت الصحيفة الناجحة. وأناشد رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام أن يتابع شأن المحررين مع نقابتهم. حفًظا لحقوقهم. وكرامتهم٬ بما أعرف عنه من حكمة. وصبر. وكفاءة. وغيرة على سمعة الإعلام ولبنان.
الصحافة صديقة ممتعة. وزوجة متعبة. ومهنة زئبقية. متقلبة لدى الباحثين عن المغامرة. واللااستقرار في الحياة. وأقدم هنا نماذج سريعة لخطوط «الوصل والاتصال»٬ في تجربتي مع الصحافتين السورية واللبنانية. ولعل في سراج العمر بقية زيت كاٍف لعرض تجربتي مع «الصحافات» العربية.
لم أعمل في السياسة في حياتي. لكن السياسة دمرت حياتي بانعكاساتها على عملي الصحافي. شكل صلاح البيطار أول حكومة بعثية بعد انقلاب عام 1963.
شكرني أمام زملائي لما وصفه بمساعدتي له في إعادة إصدار صحيفة «البعث» في عهد الانفصال عن مصر (1963 / 1961). ثم أغلق الصحيفة التي أحررها. ومكتب وكالة الأنباء التي أراسلها! ثم أغلق الصحف السورية كلها. وأبقى على صحف الحزب.
بعد 17 عاًما لحق بي صلاح البيطار إلى باريس٬ طالًبا مساعدته في إصدار «الإحياء العربي». ساعدته. لكن رفضت العمل معه. فتجربتي علمتني أن من السخف العمل في صحيفة تصدر لمعارضة نظام معين وحيد. نصحته بأن يوسع فتحة «البيكار». لم يستطع. فقد غدا عام 1980 بديل المعارضات السورية لنظام حافظ الأسد. أودع النظام رصاصة في رأس «البديل» على باب صحيفته٬ مشفوعة بكلمة رثاء باكية. ماكرة باسم رأس النظام!
عملت محرًرا للشؤون العربية في صحيفة «اليوم» اللبنانية. حيرني صاحبها عفيف الطيبي النقيب الدائم لنقابة أصحاب الصحف. كان ينصحني بكل طيبة هدوئه أن أراعي حياده الصحافي. وكان شقيقه وفيق منحاًزا لجمال عبد الناصر. ومستعًدا للشجار مع أي إنسان يتفوه بكلمة ضد الرئيس المصري.
في السبعينات٬ التحقت محرًرا غير متفرغ للشؤون العربية في صحيفة «المحرر». أمم صدام نفط العراق. فاستأجر معظم الصحف. والصحافيين. والساسة.
والمثقفين. ففي لبنان لا تستطيع أن تشتري هؤلاء. تبحبحت «المحرر». لكن توفي فجأة ناشرها هشام أبو ظهر خريج الجامعة الأميركية. ثم اغتالت إسرائيل رئيس تحريرها غسان كنفاني. فازدهرت الصحيفة عندما تولى وليد أبو ظهر شقيق الناشر شؤونها. العجيب أنه لم يكن قد مارس الصحافة في حياته.
جلس في مقعد رئيس التحرير شفيق الحوت الصحافي الفلسطيني/ اللبناني٬ المحسوب على «الختيار» عرفات٬ مديًرا لمكتب منظمة التحرير في لبنان. كان الحوت يهوى السباحة. فاتهمني بأني أريد أن أجعل من وليد أبو ظهر مجرد علي أمين آخر. وهو يريد أن يجعل منه أمير البر والبحر كهيكل.
احتل حافظ الأسد لبنان. فاستقال شفيق الحوت من «المحرر» ومن عرفات! وبات يتكلم اللبنانية بلهجة السوري غوار الطوشه. لم يعمل وليد أبو ظهر بنصيحتي بمسايرة «الغزاة»٬ لإنقاذ «المحرر». ففر إلى باريس٬ تارًكا «المحرر» في عهدتي٬ لإصلاح خطوط «الوصل والاتصال» مع السوريين! ثم عدل مضحًيا بصحيفة لم أعرف مثلها بقوة شعبيتها الطائفية. ودعاني فوًرا لإنقاذ مجلة «الوطن العربي» التي أصدرها في باريس (1977).
لم يسمع الصديق الراحل وليد كلامي بتحويل «المحرر» إلى خط وطني وعربي لا طائفي. أما الذي عرف كيف يحافظ على «خطوط الوصل والاتصال» فكان الصحافي المحترف طلال سلمان. فقد فتح الخطوط مع الجميع باستثناء القذافي! فباتت «السفير» مسافرة إلى طهران. وقم. وبغداد. ودمشق. وموسكو.. ذهاًبا وإياًبا.
بقوة السلاح٬ وعنف الإرهاب٬ هيمن «حزب الله» على الدولة. والمجتمع. والطائفة في لبنان. أصدر صحفه. وإذاعاته. وتلفزيوناته. فصار السيد حسن صفحة تحتل الشاشة في الشارع. وتم إيداع رصاصتين في فكي طلال سلمان. فأجرى عملية تجميل في الوجه «لإزالة آثار العدوان». من دون اتهام أحد. وظهر الولاء الطائفي على شواهد القبور في صفحة الوفيات. أصبحت مهمة السفير طلال إزجاء المديح. والرثاء لمرتزقة «حزب الله» الذين «تضحي» بهم إيران في حربها السورية