يعيش لبنان اليوم وضعا اقتصاديا وماليا ومصرفيا صعبا، فقد جفّت مصادر تمويل خزينة الدولة. كما غرق الوطن كله، في أزمة اجتماعية خانقة، مترافقة مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية حتى لامس العشرة آلاف ليرة لبنانية ولأول مرّة منذ عام ١٩٩٣، يوم كان السعر الرسمي ١٥٠٧.٥ كما انعكس التدهور المالي على مستوى معيشة اللبنانيين، فارتفعت أسعار السلع والخدمات، وتقلّصت قدرة المواطنين الشرائية، وفقدت مداخيلهم الكثير من قوّتها، وَحِيلَ بينهم وبين ودائعهم المصرفية المودعة بالدولار، كما أصبح الوصول لودائعهم بالليرة مقيّداً بسقف محدود.
وجاءت كورونا بالتوازي مع الأزمتين الاقتصادية والمالية، فضلاً عن الأزمة السياسية المتمثّلة بعرقلة تشكيل الحكومة، لتزيد من معاناة الشعب اللبناني. وعلى رغم الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠، والمبادرة الفرنسية التي تلته ومقترحاتها لحل الأزمة إلا ان الخلاف السياسي الحاد بين القوى السياسية في الداخل اللبناني، يقف عقبة أمام أي حل وأوله تشكيل حكومة مهمة إنقاذية، من أجل معالجة جديّة للأزمة تتماهى مع مقاربات الخارج للحل، على رغم المحاولات الجادة والمخلصة للرئيس المكلف سعد الدين الحريري.
كما لا ننسى ان من تحديات العام الحالي ٢٠٢١، التفاوض مع الدائنين، من أجل استحقاقات سندات الخزينة بالدولار (اليوروبوند)، والذي أعلنت حكومة دياب في ١٧ آذار الماضي من العام ٢٠٢٠، التوقف عن دفعها، وبالتالي إعلان حالة التعثر المالي، وهي شبيهة بحالة إفلاس الشركات والمؤسسات الخاصة، ما خفّض التصنيف الائتماني للبنان الى أدنى سلّم التصنيف، وهو فئة التعثّر الانتقائي (SD) وخسارة ثقة الأسواق المالية العالمية، وتعذّر الحصول على التمويل اللازم.
أقول: وسط هذا كله، ووسط هذه الأزمات المتلاحقة، التي أثقلت كاهل المواطن اللبناني، وحرمته من أدنى حقوقه… تُطِل مشكلة أخرى، افتعَلها بعض الذين لا يفكرون إلا بمصالحهم الشخصية، وبالنكايات والحرتقات، لإبقاء هذا البلد غير مستقر ولا آمن، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا، او حتى ولا أمنيّاً. هذه المشكلة هي تلقيح عدد من النواب في حَرَمِ المجلس النيابي، والمناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور. فقد كشفت مصادر نيابية، أن النواب الذين تلقّحوا في مجلس النواب، تمّ التواصل معهم، وهم مسجلون عبر المنصة، وهم بالتالي تجاوزوا السبعين من العمر وانه لم يتم تلقيح النواب الذين تقل أعمارهم عن السبعين، حيث ان النائب أيوب حميّد، حضر للحصول على اللقاح، إلا أنه عاد وامتنع عن التلقيح، وعاد أدراجه من دون ان يتم تلقيحه.
إلى ذلك أوضح نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي انه تم الاتصال بـ٢٦ نائباً لتلقي لقاح كورونا، وهم ضمن الآلية المتّبعة، لأن أعمارهم تفوق الـ٧٠ سنة. وكشف بأن ١١ نائباً فقط الذين تمَّ تلقيحهم بالأمس في مجلس النواب، هم من ٧٠ سنة وما فوق، وأوضح بأن النواب الآخرين، تمَّ تلقيحهم في المستشفيات قبل ذلك. ونفى انه تم الاتصال بأحد النواب السابقين، بل هو الذي اتصل من أجل السؤال عن تعويضه.
من هنا أبدأ بقضية تلقيح عدد قليل من النواب، وهؤلاء مسجلون عبر المنصة…
وتنطبق عليهم الشروط المطلوبة تماما. وهذا ما عبّر عنه نائب رئيس المجلس ايلي الفرزلي كما ذكرنا. هذا الرجل الحكيم، العامل بصمت، المخلص، تكلم، وفي كلامه ألمٌ، وكأن المنتقدين لا همّ لهم إلا النيل من الأشخاص المخلصين العاملين، والإساءة المقصودة الى نواب، يحاولون توحيد البلد بآرائهم واقتراحاتهم، ويعملون على جمع الشمل… شمل اللبنانيين من كل المذاهب والطوائف.
وأعود الى القول: بأن قضية تبدو «صغيرة» كهذه، أثارت وسط الانهيار اللبناني شبه التام، موجة انتقادات عظيمة، كما اعتبره البعض خرقا لخطة التلقيح المعتمدة في البلاد. كما دفع البنك الدولي، نتيجة الانتقادات غير المبرّرة، الى التلويح بتعليق تمويله للحملة.
يا جماعة… لماذا تعظيم الأمور؟ فالنواب الذين تلقوا اللقاح، اسماؤهم موجودة على المنصة الرسمية وفق الفئة العمرية. وقد حان دورهم. لقد تسبّب المنتقدون بكل تأكيد، بزعزعة الثقة بلبنان… وأول الغيث تهديد البنك الدولي. فلا أجد لمثل هؤلاء مبررا، وكأنهم يساهمون من حيث يدرون، او من حيث لا يدرون بمنع إغاثة الشعب اللبناني والمساهمة في قتله. فهل يستطيع أحد إفهامنا سبب هذه الضجة المفتعلة، وبسبب عدد محدود من اللقاحات، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.. وهل كتب على لبنان التناحر والتذاكي، واللعب بالنار دائما، لإبقاء هذا البلد على فوهة «بركان». وهل يعلم المصطادون في المياه العكرة، انهم يتسببون في مآسٍ جديدة للبنان… هو في غنى عنها خصوصاً أن ما فيه «يكفيه». وما بال هؤلاء لا يعيرون لمصلحة الوطن ولو اهتماما بسيطاً… إنها مهزلة بالفعل ما بعدها مهزلة.
اللبنانيون يعيشون في عتمة تكاد تقضي على ما تبقى من «شبكة أمان»، فقدها اللبنانيون، والعتمة، بشّرتنا بها وزارة الطاقة، وها هي بوادرها تلوح في الأفق، في تقنين قاسٍ ومرير.
عدّاد كورونا يحصد الإصابات بالآلاف، وعدد الموتى في ازدياد مستمر… ونحن نتلهى بفقدان بضع لقاحات أعطيت لنواب الأمة، وهم يستحقون أخذها. وهذا ما يذكّرني بقصة «الجدل البيزنطي» وهو نقاش لا فائدة منه، يتناقش فيه طرفان، من دون ان يقنع أحدهما الآخر وَيُنسبُ هذا الجدل الى بيزنطة، عاصمة الامبراطورية البيزنطية، والتي عرفت يوما ما بالقسطنطينية، في القرن السابع الميلادي. ففي القرن الخامس عشر الميلادي وعندما حاصر السلطان العثماني محمد الثاني القسطنطينية… وبينما كان مصير الامبراطورية بكاملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولاً بمناقشة أمور فقهيّة لا فائدة منها، مثل جنس الملائكة، (وهل الملائكة ذكور أم إناث)، وحجم إبليس (هل هو كبير، بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة؟)، وبينما كان الجدل محتدما في قاعة مجلس الشيوخ كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعدما تمكن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها.
يا جماعة… لا تجعلوا لبنان عرضة للسقوط بفضل أنانياتكم ومصالحكم الشخصية، فالعمل الذي تمّ بتلقيح عدد قليل جداً من النواب، لا يساوي نقطة خلافية جديدة، يفتعلها الحاقدون والمتآمرون.. ولا تساهموا في جعل الشعب اللبناني، متخلفا في نظر الشعوب الأخرى، فلبنان وشعب لبنان كان ولا يزال مفخرة العالمين… ولنفرض معا ان هذا العدد القليل من اللقاحات، ضاع او انكسر…
تعالوا نتناسى ما حدث… رأفة بلبنان وباللبنانيين ورددوا معي قول المتنبي:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم.