احتلت إسرائيل صحراء سيناء مرتين. كانت المرة الأولى في عام 1956 في اطار العدوان الثلاثي ( البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) على مصر رداً على تأميم قناة السويس. وكانت المرة الثانية في عام 1967 في اطار حرب الخامس من حزيران يونيو من ذلك العام.
بين فترة الاحتلالين قدم المهندس اللبناني وعضو مجلس النواب الأسبق الشيخ موريس الجميل مشروعاً متكاملاً الى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر حول سيناء. اساس المشروع هو حماية سيناء من الاحتلال الإسرائيلي وقطع الطريق أمام مطامعها التوسعية في شبه الجزيرة. ويدعو المشروع الى رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي لأهالي سيناء حتى يكونوا رأس حربة في وجه النوايا التوسعية الإسرائيلية.
يقترح المشروع:
أولاً: بناء مدن جديدة في سيناء، وتشجيع المصريين على الانتقال للعيش فيها. ومن شأن ذلك أن يخفف الكثافة السكانية عن مصر غرب القناة وأن يرفع من الكثافة السكانية في شبه الجزيرة المترامية الأطراف.
ثانياً: شق قناة لجر مياه نهر النيل الى سيناء لتأمين حاجات التوسع السكاني فيها من المياه الصالحة للشرب وللري.
ثالثاً: اقامة سلسلة من المنتجعات السياحية البحرية على طول شواطئ سيناء.. وكذلك اقامة مزارع حديثة للأسماك ولتعليب الثروة السمكية.
رابعاً: اقامة سلسلة من المصانع في ضواحي المدن المستحدثة لتشغيل اليد العاملة، ولزيادة الانتاج الصناعي المصري وتطويره وتحديثه.
خامساً: تشجيع الجامعات المصرية على فتح فروع لها في مدن سيناء المستحدثة لتشجيع الانتقال الى هذه المدن من غرب مصر الى شرقها ولتوفير المقومات التعليمية والتربوية التي تستقطب المنتقلين.
سادساً: استثمار المراكز الدينية التاريخية في سيناء تشجيعاً للسياحة الدينية، اضافة الى السياحة الطبيعية.
كان المهندس اللبناني الجميّل يعتقد ان سيناء بسكانها القليلين تشكل حافزاً للاحتلال الإسرائيلي. وان سيناء الكثيفة السكان تشكل سداً في وجه الأطماع التوسعية الإسرائيلية. وكان يعتقد ايضاً ان لهذا المشروع أبعاداً اجتماعية هامة. فمصر التاريخية تختنق جراء ارتفاع نسبة المواليد، وتآكل الاراضي الصالحة للزراعة (حول نهر النيل)، والتي تحولت الى أحياء عامرة بالسكان. وفي الوقت ذاته فان سيناء المترامية الاطراف والخاوية تقريباً من السكان قد تشكل بؤرة للتفجر الاجتماعي من جراء شعور أهلها بالحرمان والفقر والإهمال.
وصل المشروع الدراسة الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولكنه لم يرّ النور. أما موريس الجميّل الذي شغل منصباً وزارياً في لبنان، فقد توفي بالسكتة القلبية في مجلس النواب وهو يلقي كلمة انتقادية لسياسة الحكومة. وحلّ محله في البرلمان الشيخ أمين الجميل الذي أصبح رئيساً للجمهورية ورئيساً لحزب الكتائب. وتعود علاقة عائلة الجميل بمصر الى مطلع القرن الماضي عندما هاجر اليها الجدّ الأول للعائلة هرباً من استبداد السلطات التركية التي كانت تفرض على مسيحيي لبنان نظام الذمية بغير مفهومه الاسلامي السليم. اذ كانت تعاملهم معاملة مواطنين من الدرجة الثانية !!
وجدت هذه العائلة المسيحية في مصر – مثل كثير غيرها من العائلات اللبنانية المسيحية التي ساهمت في النهضة المصرية الأدبية والفنية والاقتصادية الجو الآمن والظروف الملائمة للحياة الكريمة. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يبادر المهندس موريس الجميل الى وضع تلك الدراسة. كذلك لم يكن مستغرباً أن يتلقى الرئيس عبد الناصر الدراسة بما تستحقه من تقدير واهتمام.
عطلت الظروف السياسية والاهتمامات العسكرية في تلك المرحلة تنفيذ المشروع. حتى وجدت مصر اليوم نفسها أمام مشكلة التطرف في سيناء التي تتوسل العمل الارهابي الخطير.
فلو تم تحقيق المشروع في حينه لكانت سيناء غير ما هي عليه اليوم انمائياً واجتماعياً وسكانياً. وبدلاّ من ان تكون سيناء نقطة ضعف في الخاصرة الدفاعية المصرية، كان يمكن أن تكون رأس حربة في وجه الأطماع الإسرائيلية. مع ذلك فان المشروع من حيث المبدأ على الأقل – لا يزال صالحاً اليوم كما كان صالحاً بالأمس.
فمصر التي قد يرتفع عدد سكانها الى المئة مليون في العام القادم، تحتاج الى التوسع السكاني باتجاه شرق قناة السويس، أي في عمق سيناء. وعندما احتلت إسرائيل هذه المنطقة الواسعة من مصر في عام 1967 ما كانت تفكر بالانسحاب منها ثانية. فقد بنت فيها مدناً صغيرة لعل اشهرها مدينة «ياميت». كما اقامت منشآت سياحية عديدة، وشبكة طرق واسعة.
ولكن عندما اضطرت للانسحاب من سيناء بموجب معاهدة كامب دافيد 1979، ثم معاهدة السلام مع مصر، بادرت الى تهديم كل هذه المدن والمنشآت والطرق. حاولت مصر التفاوض معها لدفع تكاليف المنشآت وشرائها منها. ولكن إسرائيل رفضت من حيث المبدأ لأنها لا تريد أن ترى في سيناء وجوداً سكانياً مصرياً كثيفاً.. ولا تريد أن ترى المنشآت التي أقامتها، قد تحولت الى قاعدة للتوسع الاستيطاني المصري. ونموذجاً لجذب المزيد من المصريين للعيش في سيناء.
وهكذا دمرت إسرائيل كل بيت من بيوت «ياميت». وجرفت كل الطرق وردمت حتى كل آبار المياه الجوفية التي حفرتها، ولم تترك اي معلم يدل عليها.
يؤكد السلوك الإسرائيلي التدميري أهمية تكثيف الحضور الانساني المصري في سيناء وتسريع وتيرته. ذلك ان تكثيف هذا الحضور لا يساعد في معالجة الكثير من مشاكل مصر الاجتماعية والتنموية، وحتى الأمنية الداخلية، ولكنه يساعد أيضاً في تعزيز دفاعاتها الاستراتيجية في وجه المطامع التوسعية الإسرائيلية.