وقف إطلاق النار في سوريا، إجراء أميركي روسي أرسته معادلة تحقق مصالح القوتين العظميين، على وقع بلوغ المخاوف الأوروبية ذروتها وتسليم القوى الإقليمية بعجزها السياسي والعسكري. المعادلة الراهنة تستبطن توازناً واقعياً وساكناً لمصالح القوى الإقليمية، مما يُرجّح انطلاق العملية السياسية التي يبدو أنّها ستكون قاسية وطويلة الأمد. وقف إطلاق النار يعبّر عن اعتراف كلّ من روسيا والولايات المتحدة بمصالح الأخرى. الأدوار الإقليمية المندرجة تحت هذا الإعتراف المتبادل محكومة بعدم إحداث أي خلل في توازن مصالح القوتيين العظميين. على هذا الأساس يصبح كلام المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا عن دور السوريين في رسم الحل السياسي ادعاءً لا يمتّ إلى الواقعية السياسية ويخرج عن كلّ السياقات التي رافقت التسويات التي رعتها الدول العظمى عبر التاريخ.
على المستوى الأميركي أدّى الصراع في سوريا دوره وبلغ الحالة النهائية المرجوّة، فقدت سوريا كلّ مقومات الدولة الراسخة التي كانت تمتلكها، أضحت دولة يعوزها الإستقرار والتماسك السياسي، كما تفصلها سنوات وتعوزها موازنات هائلة لإعادة ترميم بنيتها التحتية إقتصادياً وعسكرياً. سوريا المدمّرة المُقصاة عن وظيفتها الإقليمية التحقت بالعراق المفكك ولم تعد تشكّل تهديداً أو تمتلك أي نفوذ إلى أجلٍ يبدو طويلاً. تأمين استقرار جبهة الجولان الذي جعل منها قوة إقليمية تمدّدت على مساحة لبنان والأردن وفلسطين سيصبح أحد مهام منظومة دولية تتولى لملمة بقايا دولة خائرة القوى.
روسيا من جهتها أعادت التموضع بشكل راسخ في الشرق الأوسط وعلى ضفاف المتوسط، ممهدةً لدور جديد في المنطقة، باشرته بانتشار غير مشروط في سوريا وبتنسيق ميداني مع إسرائيل وإيران والعراق، واستكملته باحباط كلّ محاولات تركيا لإيجاد أي مسوغ للتسلل إلى الميدان السوري وبإقصاء كلّ حلفاء النظام السوري عن أية شراكة في أي دور مُعلن في المفاوضات، حتى أنّها تدخّلت في تسمية فصائل معارضة خاصة بها للمشاركة في مؤتمرات جنيف.
تحت هذا السقف الروسي- الأميركي لا بدّ من التأمل في بعض المعطيات الإقليمية:
< زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو قبل أيام إلى طهران، على أثر التقدم الذي أحرزه الإصلاحيون في الإنتخابات الإيرانية. الزيارة تناولت تفعيل التعاون الإقتصادي في مجالات النفط والغاز والطاقة وزيادة حجم التبادل التجاري. تصريح رئيس الوزراء التركي خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانجيري، حين قال «يجب أن تجد تركيا وايران رؤية مشتركة لإنهاء القتال بين أشقائنا في الشرق الأوسط ووقف الصراعات العرقية والطائفية»، وأضاف : «ربما اختلفت وجهات نظرنا لكننا لن نستطيع تغيير تاريخنا أو جغرافيتنا»، يدّل على الرضوخ المزدوج لكلّ من إيران وتركيا لتداعيات السقف الاميركي الروسي للحرب في سوريا، والرغبة التركية في تخفيف التوتر الإيراني – السعودي.
< فشل منظومة الحكم في العراق التي أرستها التسوية الإيرانية- الأميركية والتي أدت إلى صعود التطرف المذهبي بالإضافة إلى هدر المقدّرات الإقتصادية وتعميم حالة من الفساد على كافة مستويات الحكم. هذا بالإضافة إلى تصاعد التململ نتيجة فشل خطة رئيس الحكومة حيدر العبادي الإصلاحية وفشل اجتماع كربلاء بين قادة التحالف الوطني بالرغم من المشاركة الإيرانية فيه للملمة الخلاف داخل البيت الشيعي وتوجّه العشرات من نواب البرلمان العراقي إلى تشكيل تحالف برلماني جديد عابر للطوائف قد يصل إلى مئة نائب، يدعم تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط بهدف تحجيم دور الكتل الكبيرة في التشريع والرقابة والحؤول دون تدخلها في اختيار الحكومة الجديدة.
< إنعقاد القمة الأوروبية في بروكسل أمس في محاولة لاستدراك سلبيات الهجرة السورية عبر تركيا إلى أوروبا والتي باتت تهدد ليس أمن أوروبا فحسب بل نُظمها القانونية والإجتماعية فضلاً عن إرتفاع مشاعر الكراهية والعنصرية نتيجة إنتقال آلاف من الإرهابيين في صفوف النازحين. وفي هذا الإطار يندرج تحرك قادة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا للحوار مع الزعيم الروسي من أجل ترسيخ الهدنة في سوريا ودفع الحل السياسي، وإعلان رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون عن إرسال بوارج حربية للمشاركة في عمليات حلف الناتو للتصدي لمهربي البشر في بحر إيجه وتوجيه رسالة واضحة للمهاجرين الذين يريدون القدوم إلى أوروبا أن عليهم البقاء في ديارهم.
< تحكّم روسيا بمصير الأسد كورقة مساومة وحرصها على بناء علاقات متبادلة مع السعودية في ملفات عديدة أبرزها أسعار النفط والإستثمارات المتبادلة وحرص المملكة على بناء علاقات متينة مع قوة دولية كبرى قادرة على المساومة في الأزمة السورية في ظلّ عدم ظهور حلول نهائية للأزمة السورية في المدى القريب.
من حقنا كلبنانيين أن نسأل:
ما هي المهام المقبلة التي تنتظر حزب الله في ضوء الفرص المرتفعة لتحوّل وقف إطلاق النار في سوريا الى هدنة دائمة والترتيبات الروتينية التي تعقب ذلك؟ كيف سيقيّم الحزب هذه التجربة أمام جمهوره وأمام اللبنانيين؟ وما هي التداعيات السياسية والأمنية التي سيرتبها هذا الانسحاب؟
أسئلة هل نجد الإجابة عليها في الإطلالات المقبلة للأمين العام!!!!