غادر المثلّث الرحمة البطريرك الكاردينال مار بطرس نصرالله صفير هذه الدنيا وهو يرفض الحكم على إتّفاق الطائف، داعياً إلى تطبيقه أولاً. وغبطة البطريرك الكاردينال مار بطرس بشارة الراعي، أمدّ الله في عمره، لم يحد عن هذه القاعدة. وخلاصتها: قبل أن تُقيموا القيامة على إتفاق الطائف عليكم تطبيقه ببنوده كافة نصاً وروحاً.
سيّد بكركي الحالي وسلفه الراحل على يقين بأنّ ما يُطبَّق في لبنان ليس إتّفاق الطائف إنما هو أنموذج مسخ عنه، مع أنّ هذين المرجعين الكبيرين لم ينفكّا يقولان بضرورة إجراء تعديلات عليه يصفها كلاهما بأنها «طفيفة وتقتضي توافقاً وطنياً».
ليس سراً أنّ الطائفة السنية الكريمة تتمسّك بالإتفاق وإن كان أركانها ينضمّون إلى القائلين بأنه لم يوضَع، بعد، موضع التطبيق التامّ. وهم يتوجّسون من المطالبة بتعديله، ويؤكّدون على أنّ حسن التطبيق يكشف حسنات عديدة فيه، لا تظهر بوضوح حالياً بسبب سوء التنفيذ.
اللافت أنّ المرحلة المأزومة التي مرّ ويمرّ بها لبنان تبدو أزماتها عصيّة على الحلول. إنّ الإشارة إلى تعديل طفيف في النظام بدرت عن سيّد بكركي في خطابه الأخير أمام الحشد الشعبي الذي أمّ الصرح مُبايعاً، وصدرت أيضاً عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلامه حول لبنان بالموازاة لمبادرته التي مُنيت بسلسلة نكسات، والتي يقرّ الجميع بأنها متوقّفة مُستدركين أنها لم تسقط بعد بالضربة القاضية. لذلك يقولون إنها في البرّاد، والبعض يقول في غرفة العناية الفائقة. والفرق بين التوصيفين أنّ ما في البرّاد يمكن العودة إليه مع الوقت، أما نزيل غرفة العناية الفائقة فكثيراً ما يكون معلّقاً بين الحياة والموت. وفي تأكيد ماكرون أنّ المبادرة حيّة وإن لم تُرزَق بعد. والكلام على النظام في لبنان يأخذ أوجهاً عدّة. والجانب اللبناني من هذا الكلام ينطلق عموماً من منصّات طائفية. فعندما يصرّ أهل السنّة على الطائف من دون تعديل أيّ فاصلة فيه، فإنما تنطلق خلفيّتهم مما منحه لرئيس الحكومة من صلاحيات ودور. وعندما يُطالب الجانب المسيحي بالتعديل، فإنه ينطلق من الحسرة على صلاحيات واسعة كانت لرئيس الجمهورية، ومن الرغبة باستعادة بعض منها. أما حزب الله والشيعة عموماً فليسوا مُقتنعين بالنظام، والحزب يرفضه جملة وتفصيلاً.
وثمّة كثيرون ينظرون إلى هذا النظام على أنه «أدّى عسكريّته». وإلا كيف نفسّر العجز عن أيّ حلّ؟ وقد يُقال، ونحن من القائلين، إنّ الزمن السياسي في لبنان رديء جداً، وبالتالي مطلوب قادة تاريخيون. ولكنّ هذا النظام، بتكوينه، لا يفرز أمثال هؤلاء القادة لأنه يُحصّن الثغرات كلّها ويحمي القائمين بها والمشرفين عليها كما يحمي الورثة، بقدر ما يُغطّي على الأسلاف ويهيّئ التكايا للأبناء والأحفاد.