تميّزت أنظمة محور المُمانعة الظلامي التي تتالت على قيادته خلال العقود الممتدّة من سبعينات القرن الماضي وحتّى المرحلة الحالية، بامتهانها وبتفوّقها بمنهجية التكفير السياسي، مُثبتة امكانياتٍ كبيرة في سياسات شيطنة معارضيها وعزلهم، ليس فقط في داخل أراضيها بل أيضاً في كافة الدول المجاورة التي تعتبرها تدخل في مجالها النفوذي والتوسّعي. وفي هذا السياق درجت أجهزتها المخابراتية والدعائية على شنّ حملات تخوينية ضدّ مخالفيها في الرأي والتموضع السياسي، وتبعاً للأوضاع والمواقع والحسابات المناوراتية، فمنهم من عمِلت على تكفيرهم دينياً ومذهبياً «كعدو للاسلام « ومنهم من كفّرتهم قومياً «كعدوّ للعرب «. وأفضل مثال على ذلك ما مارسه النظام السوري من خرقٍ للسيادة اللبنانية، وتفجيرٍ للأوضاع الداخلية في الاردن، وضربٍ للمنظّمات الفلسطينية بعضها ببعض، ما أدّى إلى تدمير قدرات هذه الشعوب وإرجاعها إلى أزمنة التخلّف والتأخّر.
إنّ اعتماد منهجية التكفير السياسي سمحت لهذا المحور باستخدام جميع أدوات الإلغاء، وتفوّق بها على كافة المُنظّمات التكفيرية الدينية الغبيّة التي أضحت بفعل افتقادها للإدراك وللعقلانية مُنظّمات مرتزقة تُستخدم من أنظمة هذا المحور ومن قبل أطراف إقليمية ودولية معنية بالمنطقة، بعمليات تبادل الرسائل وممارسة الضغوطات الضرورية في ساحات تقاسم النفوذ في ما بينها. وقد تبيّن في مسار المعارك العسكرية بأنّ الكثير من قادة المنظّمات الارهابية تمرّسوا على يد أجهزة المخابرات للأنظمة المُمانعة، أي محور التكفير السياسي، ونالوا شهاداتٍ من سجّانيهم بالأهلية للخروج أحياءً من أقبية ودهاليز المعتقلات، وبمكافأة إرسالهم إلى مختلف زوايا المنطقة، وحيث تقتضي الحاجة، لممارسة أعمالهم الوحشية في بلداتٍ سورية باسم الدين، وفي المخيّمات الفلسطينية المنتشرة في لبنان لتفجير الأوضاع وضرب الاستقرار، كما شهدنا في مجزرة مخيم نهر البارد ضدّ الجيش اللبناني.
أثبت هذا المحور أنّه مُنسجم مع ذاته بكافة أعماله، في العمل الأمني كما في العمل السياسي، رافضاً الرأي الآخر ومتآمراً عليه لعزله ولاغتياله ولتكفيره ولشنّ الحملات الاعلامية الكاذبة عليه ولتشويه صورته. وبما أنّه محور مفلس أخلاقياً وفكرياً وانسانياً، ويفتقد لامكانيات التنافس مع الآخرين نحو الأفضل والأحسن، فقد كرّس كافة جهوده للنجاح في عمليات إلغاء الآخرين وتدمير صورتهم وتشويه قضاياهم.
ما زالت المنهجية ذاتها تُسيّر أمور أطراف وأدوات محور المُمانعة، والمثال الأنجح على ذلك في المرحلة الحالية، ما استطاعه نسبياً «حزب الله» من تكفيرٍ للفريق السيادي في لبنان، لمجرّد وقوف هذا الفريق المُناضل لأجل بلاده سدّاً منيعاً بوجه مخطّطاته وتمكّنه من الصمود بوجهه وعدم الانصياع لشروطه، فتمادى محور التكفير كردّة فعل متوقّعة منه بكيل كافة الاتهامات المُفبركة له، والتي تسبق عادةً عمليات هدر الدماء، التي مارسها في لبنان لسنواتٍ وسنوات، ومنذ ما قبل سنة 2005، وبالبداية في داخل بيئته المذهبية، عندما قضى على معارضيه ومنافسيه فيها، ولاحقاً في بيئته السياسية، عندما ضرب الحركة الوطنية والمقاومة الوطنية اللبنانية التي نشطت ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، فأحلّ مكانها المقاومة الاسلامية بشقّها الايراني، بهدف حصر قرار الحرب والهدنة والسلام والاتفاقات به وبحسابات المفاوض الايراني.
أمّا في المرحلة الحالية الممتدّة من ثورة الأرز في سنة 2005 وحتى الآن، فبالاضافة لعمليات الإلغاء الجسدي التي مارسها ضدّ الفريق السيادي نشهد حملات تكفير سياسي من قبل قياديي «حزب الله» وأكثر من يبرع بها هو الشيخ نعيم قاسم الذي امتهن لغة التكفير السياسي وتصدّر قائمة خبراء هذه المنهجية وبفارق كبير عن رفاقه، وسيذكره التاريخ ربّما بأنّه بات صاحب مدرسة مُشابهة لمدرسة جوزف غوبلز، خبير الدعاية النازية. ويُسجّل للشيخ قاسم قدرته العالية على انتهاج منهجية التكفير السياسي خلال مقابلاته التلفزيونية بتجاهله الكامل لما يُسمّى الرأي الآخر والطرف الآخر والطرح الآخر، اذ لا وجود في مقارباته لحقيقة أخرى غير التي يؤمن بها ايديولوجياً ويعمل لتسويقها شعبياً.
وإن كان أسلوب الشيخ في بداياته الاعلامية يُشكّل استفزازاً لأخصامه فقد أضحى مع تماديه بمنهجية التضليل والإلغاء ظريفاً وخفيف التأثير، فقد يُصلح تذكّر قول لغوبلز ذاته بالوضعية الحالية التي وصل اليها الشيخ قاسم بالتالي: «أقوى سلاح عند المُخادع عقل المخدوع، ونحن نزيد عقل المخدوع الذي لا يستيقظ. وهناك من يستيقظ ويتبع الحقيقة، ولكن هناك من لا يريد أن يستيقظ لأنّه مُستفيد، وهناك من ينام نومة أهل الكهف». ليؤكّد غوبلز أيضاً أنّ من يُحاول أن يُخادع فيُكثر بسذاجة نفي الحقائق ولذلك يُكشف أنّه مُخادع.
ولكن منهجية الإلغاء لم تنفع محور التكفير السياسي ضدّ كلّ الافرقاء اللبنانيين، اذ واجهَ محاولاته فريقٌ سياسي صلب، بداياته منطلقة من رحم المقاومة اللبنانية المُناضلة التي لم تعرف يوماً تردّداً في الدفاع عن شعبها وأراضيها واستقلاليتها وحرّيتها. ففي زمن الغزو العسكري نظّمت نفسها وحاربت واستشهد منها الكثيرون لأجل البقاء، ولكنّها فرضت نفسها وأبقت على وجود مجتمعها. وفي زمن القمع والمعتقلات صمدت فكرياً ونجحت بالتعاضد مع بعضها البعض وحافظت على القضية. وعند التحرّر وزوال الإحتلال استطاعت العودة بسرعةٍ إلى العمل السياسي، ولكنّها حمت نفسها من لعبة المزرعة. وفي زمن الانتفاضات الشعبية انفتحت ودعمت أطرافاً سياسية ومدنية، وتكلّلت محاولاتها بتكوين جبهة معارضة ضدّ محور التكفير السياسي.
وها هي اليوم تصدّ بفكرها وبحكمتها وبشجاعتها وبإيمانها وبتمسّكها بالهوية والوجود والرؤية، سياسات التكفير السياسي وتقلب الطاولة عليها، وتفضح نتائجها المُدمّرة. فحين يُكفّر المحور القضاء اللبناني المستقلّ والشجاع تقف المقاومة اللبنانية المتمثّلة بحزب «القوات اللبنانية» داعمةً للقضاء الشريف. وحين يُكفّر هذا المحور بدهاء الجيش اللبناني، تُحسن «القوات اللبنانية» بإفشال محاولاته دفاعاً عن المؤسّسة العسكرية الحامية للسلم الأهلي اللبناني والمانعة للفوضى، وتُعرقل مساعي المحور لتحويل الجيش الوطني حامياً للحاكم بدل أن يكون حامياً للشعب. وعندما يُكفّر المحور القطاع المصرفي اللبناني، مُستغلّاً أخطاء وتجاوزاتٍ قانونية جُرّ إليها بدفعٍ من سلطة المحور، بهدف استبداله بمؤسساتٍ مالية تابعة ومُحرَّكة من الدويلة، تفضح «القوات اللبنانية» المُقاوِمة مؤامرات المحور التكفيري للسيطرة على أموال اللبنانيين وتحاويلهم. وعندما يُكفّر المحور الدستور اللبناني، تصدّ «القوات اللبنانية» محاولات الاستغناء عن التركيبة اللبنانية بالتشديد على الشراكة الداخلية وعلى الحياد الخارجي، الحافِظيْن للبنان، وتتجرّأ بالإقدام على طرح فكرة تركيبة جديدة في حال استمرار المحور بضرب الدستور اللبناني وخرقه.
إنّ المقاومة اللبنانية التي هرعت إلى الجبهات يوماً للدفاع عن الوجود، والتي لم تخش القمع والتعذيب، ولم تدخل في المحاصصات المُدمِّرة والفاسدة يوماً، تتحلّى بكافة الصفات الضرورية والشجاعة لمواجهة محور التكفير السياسي، وتطالب المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته بعدم السكوت عن الظلم والقمع، كما تدعو المواطنين إلى وعي الأخطار وعدم الانجرار خلف الحلول الوقتية التي تُبنّج ولا تُشفي، والاستعراضات السخيفة التي توهم ولا تُعالج. إنّ عدوّ لبنان الحضاري والمتطوّر والحرّ، ليس فقط من يحمل منهجية التكفير السياسي بل أيضاً من يُلاقيه من خلف ظهر الاصطفاف السياسي السيادي من أصحاب منهجية تشويه الحقائق وتسخيف القضايا وتشبيه المحاور ببعضها البعض والمساواة بينها. إنّ العدوّ الذي يقف بالواجهة هو محور المُمانعة المتخلّف، والعدوّ الذي يختبئ بالخلف هو المُسوّق للشمولية وللجمع بين الاصطفافات السياسية، ولكن الحقيقة واضحة وجلّية وليست سلعة بيد المشوّهين، فهناك محور يُكفّر سياسياً، وهناك محور يدافع عن لبنان. فهل المحور الثالث مستعدّ لكشف أوراقه؟؟؟
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»