أن يُكتسب لقب مُقاومة فإنّه لشرف كبير لا يستحقّه من يُمارس عكسه، فالمقاومة صفة المُناضل ضدّ المحتلّ أو الغازي، ولا استثناءات فيها ولا فتاوى، والشعوب التي تتعرّض لاعتداء على أراضيها أو تعدٍّ على سيادة وطنها أو احتلال لمرافئها تُنظّم صفوفها وكوادرها لتقاوم من دون تصنيفٍ للمحتلّ وللمعتدي. ولكن ما نشهده في لبنان بعد زوال الاحتلالات التي تعرّض لها منذ سبعينات القرن الماضي، هو عمل سياسي مع مُستخدِم لشعار المقاومة، ويندرج بامتياز في خانة الإيديولوجيا وبوضوح في سياق المشروع التوسّعي الإقليمي الهادف لتغيير هوية الدول الساقطة تحت سلطانه ومنها لبنان.
أمّا المقاومة الحقيقية فتختلف كلّ الاختلاف عن السياسة، وتتعاكس كلّياً مع العمل الترهيبي المُمارس ضدّ الشعب الرافض لمنهجية تزوير معنى المقاومة.
من كان له شرف حمل لقب المقاومة اللبنانية، تكودر وتنظّم وناضل ضدّ الاحتلالات السياسية والأمنية والعسكرية، وسطّرت مقاومته بطولاتٍ وانتصارات تطابقت تماماً مع خصائص العمل المقاوم الحقيقي، ولم يسعَ لتجيير مقاومته لمشاريع خارجية، مذهبية أو ايديولوجية أو محورية، وتخلّى عن سلاحه المُناضل والمُقاوم عندما جاء وقت قيام الدولة العميقة لجميع فئات المجتمع.
ومن كان له أيضاً شرف المقاومة ضدّ إحتلال العدو، وإن أقدَم على ذلك مدعوماً من إحتلال القربى لكنّه إستحقّ لقب المقاوم، سعى لتجيير فائض القوة التي امتلكها حينها إلى مشروعه السياسي الإقليمي، القومي أو العقائدي، وبالنهاية سقط مشروعه أمام المشروع الوطني التشاركي. وإن كان للمقاومين ما أرادوه بمغادرة المحتلّين، على الأقّل عسكرياً، فمن يتّخذ حالياً شعار المقاومة لتغليب محورٍ ما على آخر، هو ليس مقاومة لا لبنانية ولا وطنية، بل مشروع إيديولوجي وفئوي، وهو ذراع من أذرع نشر فكر الفقيه في المنطقة أجمع.
المقاومات في تعريف المعاجم والمراجع تأخذ أشكالاً مختلفة من النضالات الشعبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وتستهدف الوجود الغريب والاحتلال، وتعمل لتحرير الارض، واستعادة السيادة وتحقيق أهداف الشعب وتأمين حقّه بتقرير المصير، وعندما تتحوّل أي مجموعة مقاومة إلى العمل السياسي الوطني، تخسر صفتها الأصلية لصالح تصنيفها قوّة سياسية، وتُصبح محاولاتها بالتسلّط على القرار الوطني شكلاً من أشكال الاستبداد.
والمقاومات بأعمالها يُحكم عليها، فـ»حزب الله» مثلاً يُمارس ضغوطات سياسية بهدف نصرة فكر سياسي مُدعَّم بايديولوجية ذات مُنطلقات مذهبية ومرجعية إقليمية، فلا يمكنه مع ذلك الادّعاء بأنّه مقاومة، لأنّ نشاطاته وأعماله وأهدافه تصبّ كلّها لصالح تلك العقيدة، ومغالاته بمحاولة مُصادرة حقّ الدفاع عن الوطن لا تُمثّل الواقع، لأنّ الدفاع عن الوطن يكون من قبل القوى العسكرية الشرعية التي تجمع كافة أطراف الوطن، وهي التي تُحدّد كيفية الدفاع وتوقيته.
وما يؤكد مغالاة «حزب الله» في موضوع المقاومة في الوقت الذي يتعدّى على هذا الشرف من دون أن يحقّ له حمله، إستخدامه لقواه الأمنية والعسكرية في الداخل اللبناني إمّا تهديداً وإمّا تنفيذاً، في كل مرّة يشعر أنّ هناك مبادرات سياسية قد تصل الى وضعية عرقلة مشاريعه الايديولوجية المذهبية.
المقاوم الحقيقي الذي يُبعد عنه تهمة انتحال الصفة هو الذي يُجرّد نفسه من أي حساباتٍ سياسية ويرهن نفسه كمدافع عن سيادة وطنه ضدّ أي غازٍ، من دون التمييز بين العدو والغازي الجار، وهو الذي يرفض الاستفادة من شرفه كمقاوم للدخول في مبادرات تغيير الهوية والتركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للدولة الجامعة. وفي أي لحظةٍ تتدخّل أي مجموعة مقاومة حقاً في الحسابات السياسية الداخلية تخسر فوراً شرف ادّعائها بأنّها مقاومة. هذه معادلة لا نقاش فيها إذ أنّها بعيدة عن وجهات النظر ومتطابقة مع المنطق الدستوري والعملي.
المقاومات الحقيقية التي شهدها تاريخ لبنان هي التي اعتبرت أنّ نضالها عن كرامة وطنها وسيادته مسألة طبيعية، ولم تُبق على هيكليتها كدويلة بعد زوال القوة الخارجية، وهي التي عندما تحوّلت مشروعاً سياسياً، تخلّت عن سلاحها، وهي التي قدّمت الآلاف من الشهداء على مذبح حرّية الوطن وسيادته والشراكة فيه، وهي التي حمت لبنان الشراكة والتنوّع والرسالة التي يحملها للإنسانية. وهذا هو دور المقاومة الحقيقي وليس أن تتحوّل قوة تجيير لإنجازاتها إلى مشاريع غريبة وإلى ضغوطات غير شرعية لتعديل المقاييس الضامنة للوطن وللهوية.
في المقابل، فإنّ أي شعب لا يُكرّم مقاومته ولا يفهمها ولا يُدرك انجازاتها، هو شعب لا يستحقّ الاستقلال، ويفقده في كلّ مرّة أرادت قوة اقليمية الدخول عليه. هذا بالطبع لا ينطبق على كافة فئات الشعب اللبناني، لأنّه كانت هناك مقاومة عسكرية ضدّ الغزوات الغريبة ونضال ضدّ النظام القمعي، ومستمرّة اليوم بالرغم من كل التشويه الذي لحقها من «اليهوذيين»، بمشروعها السياسي، ولم تحاول يوماً استغلال تضحياتها لاجل الوطن لمصالح خاصة وفئوية، ولا تزال جاهزة في كل لحظة للعودة إلى المقاومة والنضال اذا دعت الحاجة. هناك من سمّى نفسه مقاومة، ولكنّه فقدها بتحوّله قوة قمع واغتيالات، ومنظومة مُصادرة للقرار الوطني، وقد جاء أوان التحرّر منها، والواقع الوطني برّاء منها، علماً أنّ أهمّ شروط نجاح المقاومات، صمودها كقوة شعبية.
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»