يلفّ القلق النائب وليد جنبلاط، وهو مُحِقّ بذلك. جولاته في القرى والبلدات الدرزية الواقعة في البقاع الغربي ليست المؤشّر الوحيد على ذلك، ولو أنّها تُعبّر عن مدى الشعور بالخطر.
لم يعُد خافياً على أحد أنّ منطقة شبعا باتت تشكّل هدفاً جدّياً لـ«جبهة النصرة» للنفاذ في الوقت المناسب الى داخل البقاع الغربي ومنه الى العمق اللبناني. لكنّ المشكلة لا تكمن هنا فقط، ذلك أنّ التطورات الميدانية في المنطقة المحاذية من الأراضي السورية أخَذت بُعداً جديداً.
«النصرة» تكاد تمسك بكامل الشريط الحدودي، والأهمّ أنّ البلدات والمناطق الدرزية تواجه خطر التطويق من التنظيمات المتشدّدة. طبعاً للمسألة أبعاد كبيرة، خصوصاً أنّ أعداد الدروز في سوريا هي الأكبر مقارنةً مع دروز لبنان وإسرائيل، لا بل إنّ دروز سوريا هم الأكثر عدداً من أخوانهم في لبنان وإسرائيل معاً.
لذلك، تُمثّل شبعا خطراً كبيراً على بني معروف، وهو ما جعلَ جنبلاط يتحدّث بلغة أخرى، حيث دعا أبناء طائفته إلى بدء العمل على بناء الجوامع والعودة إلى الإسلام الحقيقي، العودة إلى الأصل كما قال، مطالباً المشايخ ببناء مدارس لتعليم الدين الحقيقي الدين الإسلامي.
فالطائفة الدرزية بالنسبة إلى المتطرّفين، هي على يمين الطائفة الشيعية، وهو ما دفعَ بجنبلاط لاستعادة التجارب الدرزية على مرّ التاريخ والتي عُرفت بـ»التقية». وقيل إنّ جنبلاط تواصَل بشكل غير مباشر مع «النصرة»، من خلال قطر وأنّ تفاهماً غير معلَن حصلَ بالتزام «الجبهة» عدم استهداف القرى والبلدات الدرزية في مقابل سياسة متفهّمة لجنبلاط.
هكذا، ووفقَ الأسلوب الذي اشتهر به الزعيم الدرزي، انتقل فجأةً من موقفه الرافض أيَّ تفاوض مع المجموعات التي تحتجز العسكريين الى الدعوة لتنفيذ مطالبهم وإنجاز التبادل. لا بل ذهب أبعد، حيث قطع أنصاره طريقَ ضهر البيدر بالإطارات المشتعلة وما زالوا، في سابقة تشهدها هذه الطريق الدولية، وشمل قطع الطرق أيضاً الطريق الاحتياطي ترشيش – زحلة، حتى كادت منطقة البقاع أن تختنق.
يُدرك جنبلاط جيّداً أنّ اللعبة في المنطقة خطيرة وطويلة، ومن يُخطئ في مراحل مصيرية يواجه خطرَ الزوال، تماماً كما الإزيديين ومسيحيّي العراق.
وتردَّد أنّ عقلاء دروز فلسطين أرسلوا نصائحهم لجنبلاط ودروز سوريا: «في لبنان تفاهموا مع «حزب الله»، وفي سوريا لا تقطعوا مع النظام».
ووسط كلّ هذه التناقضات، يحاول جنبلاط نسجَ سياسته الصعبة تماماً كمَن يحاول السير على الحبل وهو يحافظ على توازنه.
صحيح أنّ جنبلاط سعى إلى تفكيك الألغام المزروعة في شبعا، وهي كثيرة، وصحيح أنّ الجيش اللبناني ينفّذ انتشاراً واسعاً ويأخذ استحكامات عسكرية استثنائية، لكنّ اللعبة تبدو كبيرة لا بل كبيرة جداً.
في المنطقة الشمالية لمحافظة البقاع، وتحديداً في عرسال خطورة أمنية تلوح عند كلّ لحظة. فالشتاء على الأبواب ودرجات الحرارة تتدنّى ولا سبيل أمام مقاتلي «داعش» و»النصرة» سوى ترك القمم والنزول الى مناطق اكثر دفئاً، وأمام ذلك احتمالان:
الأوّل، إلى مناطق يبرود والبلدات المحيطة التي خرج منها هؤلاء بعد معارك شرسة. لكنّ تحصينات الجيش السوري و»حزب الله» تجعل هذه الوجهة صعبة ومكلِفة جداً. لذلك لا يبقى أمام هؤلاء سوى الاحتمال الثاني ووجهتُه عرسال والمناطق المحيطة.
صحيح أنّ الجيش أنجَز انتشاراً قتاليّاً قوياً في المنطقة، وأنشأ خطوطاً عسكرية قوية توصِل ما بين البلدة والجرد، إلّا أنّ المشكلة تكمن في المخيمات التي تأوي النازحين السوريين عند تخوم البلدة، حيث وجَّه هؤلاء رسالة قوية منذ أيام عندما تظاهروا داخل البلدة وحملوا رايات «داعش» و»النصرة». هذا عدا المجموعات المتعاطفة داخل عرسال، والتي كانت وجَّهت بدورها إشارة قوية عندما فجَّرت عبوةً بدورية للجيش بطريقة لاسلكية، ما يعني أنّ الجيش سيصبح بين فكّي كمّاشة عندما تحين اللحظة.
وفي طرابلس أيضاً إشاراتُ قلقٍ مع انتشار مسلحين متعاطفين مع «النصرة» في قلب أزقّة باب التبانة، ما يعني أنّ اقتلاعهم يحتاج إلى حرب شوارع مكلِفة على كلّ الأصعدة.
لذلك يجب أخذ تهديدات «داعش» و«النصرة» جدّياً، خصوصاً أنّ الهدف يبقى إشعال الارض عندما تبدأ الحرب الفعلية في العراق وسوريا، إضافةً الى وجود نيّة باختراق خطوط الجيش في عرسال والاشتباك مباشرةً مع القرى والبلدات الشيعية، وهو ما يحاول أن يهرب منه «حزب الله» على رغم إنجازه الاستعدادات المطلوبة لذلك.
وتنقل الأوساط الديبلوماسية أنّ الرئيس الاميركي باراك اوباما طلب من القيادة العسكرية الاميركية التنبّه لعدم تفجير الوضع في لبنان. ولا شكّ في أنّ هذا التنبيه وسط هذا البركان الهائل في المنطقة يبقى إشارةً كبيرة ومهمة، ولكن هل هو كافٍ؟
وعلى ذمّة الأوساط الديبلوماسية الغربية، فإنّ الحركة الديبلوماسية الناشطة خارجياً لترتيب تسوية سياسية عريضة تواكب الحرب على «داعش»، إنّما سجّلت خطوات مهمّة الى الامام. ويمكن وضع مبادرة إيران من خلال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني تجاه الجيش اللبناني في هذا السياق.
ويعتقد هذا البعض أنّ هذا المناخ الاقليمي والدولي الإيجابي والقابل لأن يصبح مكتملاً، معطوفاً على أزمة لبنانية أمنية داخلية، مضافاً إليها أزمة التجديد لمجلس النواب والمرشّحة للتصاعد، إنّما سيدفع الامور لإنجاز تسوية داخلية لبنانية لكامل المرحلة المقبلة، تُتوَّج بانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية مجلس النواب في 20 تشرين الثاني المقبل.
لكنّ فريقاً آخر يعتبر أنّ هذه النظرة تفاؤلية أكثر من اللزوم، ويعتقد أنّ الفراغ الرئاسي إذا ما تجاوز التمديد الجديد لمجلس النواب، فإنّه قد يطول كثيراً، وربّما تذهب الامور بعدها الى مؤتمر تأسيسي جديد أو إلى صيغة جديدة لا تلحظ للموارنة موقعَ رئاسة الجمهورية.
وقد يكون هذا الاحتمال موجوداً، ولأنّه موجود يتسلّح أنصار الرأي الأوّل بحتمية حصول الاستحقاق الرئاسي قبل نهاية ولاية مجلس النواب، ذلك أنّ تجاوزَها سيعني الدخول في المجهول، خصوصاً أنّ المشاريع قائمة على الأرض لتغييرات جغرافية وديموغرافية. وهذا بالضبط ما يخيف جنبلاط المتوجّس من كلّ شيء، وهو ما يجب أن يخيف غيره الذي يحسب الأمور على نطاق ضيّق ومحدود.