IMLebanon

أقلّيات تتصارع كأنّها أغلبيات

 

 

ها هي السنة تمرّ، من دون أن يكون أحد قادراً على توقّع ما قد يحصل مطلع السنة المقبلة، لا خلالها. وليست هذه المرة الأولى لا يكون فيها اللبنانيون متحكّمين بمصيرهم، لكنها المرة الألف التي يختلفون فيها على كل شيء تقريباً، مهما أكثروا من عبارات التوافق والعيش المشترك والبلد الموحد والوطن النهائي وخلافه. عند اللبنانيين، جميعاً، حيلة يخرجونها من جيوبهم كلما استدعت الحاجة: قصائد سعيد عقل عن الوطن المجد وأغاني الأخوين الرحباني عن الضيعة والحب الذي يحسدنا عليه بقية سكان الأرض. ما من جهة أو حزب أو قوة أو مرجعية أو مسؤول أو فنان إلا ويغنّي لهذا البلد الأعجوبة. لكن هؤلاء، عندما يعودون الى غرفهم المغلقة، يبدأون بالصراخ والشتائم وتحميل «الآخر» مسؤولية الخراب والضياع. كما هي حال الرغبة الجماعية بمحاربة الفساد، والتي تصطدم أحياناً بالمفارقة اللبنانية العجيبة – الغريبة، كأن يقول لك صاحب مصلحة إنه ما كان يجب «تكبير» القصة في النافعة، أو إن هناك «مبالغة» في الحديث عما يجري في الدوائر العقارية، لتكتشف أن «اللبناني الشطور» يريد تيسير أموره، وهو أصلاً يعدّ الرشوة جزءاً من الضريبة التي سيدفعها لتسيير أموره، سواء كان ذلك عبر القانون أو خلافاً له.

 

لكن الأمر يصبح أكثر مأسويةً عندما يحلو لسياسيين وإعلاميين أن يعتبروا الحملة على الفساد في المؤسسات علاجاً شافياً، بينما يصبح حراماً أو إمعاناً في الخراب إن أتى أحد على سيرة الفساد الأكبر في التخطيط والتشريع والرقابة والقضاء وإدارة المال العام. هكذا، يجري تحويل السؤال عن الفساد الى قصة موظف قبض مبلغاً من المال مقابل تسهيل معاملة خلافاً للقانون، لا إلى سؤال حول الملفات التي يجري تمريرها بواسطة هؤلاء الموظفين الذين اختيروا لهذه المهمة عن سابق تصور وتصميم.

 

اليوم، لا أفق واضحاً لاتفاق على رئيس جديد للجمهورية. والانقسام هنا ليس سياسياً فقط، بل هو طائفي ومذهبي وولائي أيضاً. وهو ضمناً يخفي خلافاً حول المصالح الاقتصادية للطوائف اللبنانية وأزلامها في الإدارة العامة أو القطاع الخاص. وهذا الأفق المسدود يترافق مع كتم للنقاش حول برنامج الرئيس المقبل، وخلافاً للعناوين الفضفاضة حول السيادة والإصلاح، فإنّ أحداً لا يناقش ما يريد القيام به. وكيف يحصل الأمر إذا كان المرشحون الذين يجرون الاتصالات ويناقشون الصفقات مع الخارج والداخل يرفضون إعلان ترشحهم، ويرفضون الحديث مع الناس عما يقدرون على القيام به، ويتّكلون على أن الحسابات التي تعتمد لانتخاب الرئيس لا علاقة لها بكل هذا.

وعندما يكون الأمر على هذا النحو، ينتفي فوراً النقاش حول الحكومة المقبلة المفترض أن تدير البلاد مع الرئيس الجديد. وبالتالي يصبح النقاش حول اسم رئيسها وهويته، ويقتصر الحديث هنا على المعادلات نفسها التي تحكم آلية اختيار الرئيس الأول للبلاد. بينما، لا يريد أحد من المرشحين أو الناخبين جرّ المسؤولين الأساسيين الى النقاش الحقيقي حول ما يجب القيام به، وحول المهام المفترض أن يقوم بها الحكم القادم، برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء والإدارة العامة أيضاً.

اليوم، ليس بإمكان أحد في لبنان أن يدّعي أنه يمكن اختيار رئيس جديد وحكومة جديدة من دون الحصول على موافقة الخارج وغطائه. والخارج، هنا، لا هوية محددة له، لأن عناوينه كثيرة. لكن الحق المعطى للخارج في أن يحسم النقاش، مردّه أن اللبنانيين يعرفون أنهم ليسوا مستقلّين، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا ثقافياً عن الخارج، وأن العلاقة بينهم وبين الخارج ليست تفاعلية كما هي حال كثير من دول العالم، بل هي علاقة تبعية، تسمح لهذا الخارج بأن يأتي الى لبنان رافعاً صوته وطارحاً ما يعتقد أنه الأنسب لنا. وإذا كانت فرنسا تمثل الطرف الأكثر فظاظة في الأمر، فهي لا تنطق بغير الهوى الأميركي، وكل ما ترجوه فرنسا أن يكون لها دور في المرحلة اللاحقة، كما هي حال قطر وآخرين، بينما يعرف جميع اللاعبين في لبنان أن الولايات المتحدة والسعودية هما اللتان تحسمان الأمر. حتى ولو قامتا بالأمر ربطاً بالحسابات التي ترتبط بما تجريانه من مفاوضات مع إيران وسوريا ودول أخرى لها تأثيرها الكبير في لبنان.

 

 

ولكن، لنضع جانباً الخلافات المحلية والخارجية حول الرئاستين الأولى والثالثة، ولنكن أكثر صراحة في ما خصّ حجم التشظّي الذي يصيب المجتمع اللبناني. وسواء أعجبنا الأمر أو لا، أو تفهّمنا أسبابه أو رفضناها، فإن الحقيقة القاسية تكمن اليوم في تشكل مزاج عام، عند المسيحيين أكثر من المسلمين، عنوانه العودة الى نظرية الشك في القدرة على التعايش مع الآخر. وهو مزاج لم يعد يقتصر على قوة أو جهة أو مجموعة، بل يمكن ملاحظته في السياسة والأمن والاجتماع والاقتصاد والثقافة والحياة اليومية. ومع أن الوقائع الصلبة تشير بقوة الى صعوبة انفصال مجموعة لبنانية عن بقية أهل البلاد، إلا أن المهم التفكّر في الأمر، وهو تفكر يجب أن يحصل بهدوء، حتى ولو كانت خلاصته الذهاب نحو عقد جديد يجمع بين أبناء هذا البلد.

ومرة جديدة، حتى لا نكون أسرى فكرة واحدة تقول إن النظام لا يمكن أن يتشكل خارج إطار التنافس الطائفي، فإنّ الحقائق تشير الى أن لبنان صار بلد الأقليات، وليس فيه أيٌّ منها متماسكة أكثر على الإطلاق. حتى الأقليات القوية ليست في موقع القادر على فرض الأمر بالقوة. وهذا ما يحيلنا مرة جديدة الى عنوان جدي، حتى ولو لم تتوفر كامل عناصر نجاحه بعد، وهو البحث عن دولة مدنية تحمي الأقليات من خلال قوانين وأنظمة تحاكي كل مجموعة باعتبارها جزءاً من كل. وعدا ذلك، سنعود الى نظام طائفي مقيت، سرعان ما سينفجر حروباً متنوعة، باردة كانت أو ساخنة!