Site icon IMLebanon

الدول المُصطنعة والأوطان الحقيقية

 

تختلف أوضاع الشعوب الداخلية وطبيعة علاقات الفئات المكوّنة للمجتمع الواحد بين دولةٍ وأخرى، وقد تكون هذه الدول متجاورة جغرافياً أو مُتباعدة ومتشابهة بالظروف وبالامكانيات أو متناقضة، فالاختلاف في أحيان كثيرة لا يمتّ بصلة للأهمية الاستراتيجية الجغرافية ولا لتوفّر الموارد الطبيعية أو غيابها ولا للظروف الاقتصادية لكل بلد، بل يكون نتاج طبيعة نشوء الدولة والتكاوين الديمغرافية التي تتحكّم بها والتباعد بين فئاتها في الثقافات والانتماءات العقائدية. هذا لا يعني أنّ الدول الناجحة هي المتجانسة داخلياً، طائفياً أو عرقياً، وأن الدول الفاشلة غير متجانسة بتكاوينها الاجتماعية، بل أساس كل هذه التباينات «الثقافة».

فالثقافات تنبع من الارث الشعبي وتطبع الاداء المُجتمعي وتُحدّد الاهداف، وقد تدخل عليها ايديولوجيات وعقائد فلسفية أممية. تلك الدول التي تهبّ عليها عقائد وأفكار لا تأخذ بالاعتبار التقاليد الأصيلة للشعب وتتسلّل داخل الطبقات الشابّة من خلال غطاء انساني وشعارات مُحقّة وتطويرية، هي الدول التي تفشل وتسقط، ويمرّ لبنان حالياً بهذه التجربة. هذا لا يعني أبداً أنّ الانفتاح على الطروحات التطويرية يؤدي حتماً الى التأثير السلبي على المجتمعات المحافظة، لكن التطبيق الملتوي «والتغييري» هو الذي يشوّه الشعائر والأهداف.

لا شك أنّ لبنان «الوطن» تمايز بخصائص كثيرة طبعت وجوده التاريخي ليستحق لقب «الوطن» بالمعنى العميق للاوطان الحقيقية، ولم يكن بنشأته كدولة نتاج حسابات سياسية ونفوذية لجواره وللدول النافذة في المنطقة. كان وطناً منذ البدء ودولة بعد ذلك، وبغض النظر عن حجمه وحدوده فهو الثابت، ولا نقاش يجوز حول وجوده كونه من الاوطان النادرة التي ذُكرت في الكتب السماوية وفي مدوّنات المؤرّخين والشعراء والادباء، وهو الوطن الذي ثمن بقائه دُفع من دماء وتضحيات أبنائه.

أمّا لبنان «الدولة» التي نشأت بدستورٍ يُراعي التركيبة المتلوّنة للبنان «الوطن» فقد عانى دائماً من مشاريع توسعية ايديولوجية ومذهبية ومن توازنات نفوذية اقليمية، وبالرغم من أنّ لبنان «الدولة» كان سبّاقاً في الوجود والحضور والعلاقات الدولية والاعتراف الدبلوماسي عن الدول المجاورة لها، فلم يستطع أبداً حماية سيادته كدولة، فبقيَ لبنان وطناً حقيقياً ودولة مصطنعة.

قد يسعى بعض اللبنانيين المُدافعين عن صيغة العيش المشترك والتجربة اللبنانية الجميلة «المتقطعة» لرمي ملامات انفجارات الازمات اللبنانية المتتالية على ظلم الخارج وليس تعثر الداخل، غافلين عن قصد العامل الاهم الذي سبّب ضعف هذا البلد بفتح الثغرات ببنيانه، ما أدى الى دمار عواميده الاساسية.

لم يشعر الشعب اللبناني يوماً بالأمان والطمأنينة والثقة بدولته، ولم يعتبرها حاميةً لوجوده، فانقسمت فئة منه بإرادتها عن الدولة وطالبتها بالابتعاد عن حياتها ومصالحها، أمَا القسم الآخر فاستغلّ الدولة وابتزّها واعتمدها بديلاً عن عدم انتاجيته. هذا التباين الخطير يُعدّ الانقسام الحقيقي بين ثقافتين، لا دينين أو جنسين ولا عرقين.

تتكاثر الامثال حول الافتراق بين الشعب اللبناني، وتظهر جلياً في مواقف القادة من الجهتين، وتتجذّر الاختلافات الى درجة التمنّي بعدم التمديد للدولة الحالية وكيانها وتركيبتها، تماماً كما فعلت من قبل اجيالٌ سابقة بهجرها للدولة كونها شعرت بعدم الانتماء لها، وفي الوقت ذاته تتمسّك فئةٌ ثانية بستاتيكو المنظومة الضامنة لاستمراريتها. ومن هذا المنطلق، وعلى هذه الجبهة من الخلاف الوطني الجذري تأتي مواقف رئيس مجلس النواب نبيه برّي التي تُمثّل استمرارية لذهنية الدولة المُصطنعة من خلال اتهامه للآخرين باللاجدّية وباستخفافه بأصواتهم النيابية والسياسية والشعبية قاطعاً الطريق على محاولاتهم لتحويل البلاد دولة مؤسسات لا تحمل اللعب بالدستور ولا تتجانس مع تطيير جلساتٍ انتخابية، ومُصادراً ديمقراطية اهم سلطة في النظام البرلماني تُعدّ مصدر السلطات جميعها وصوت الشعب بكامله، ومُعتبراً أن التمسّك بمندرجات الدستور ليس الا اصوات لا يجدر الردّ عليها حفاظاً على الانتاجية.

وأفضل ردّ على هذه المنهجية والاستهتار بالدستوريين، ما جاء في التعاليم الكنسية حول انتظام الحياة البشرية في دولٍ «مبدأ دولة الحق هو إناطة السيادة بالقانون لا بالارادات البشرية المتعسّفة». كما من اكثر ما يُعبّر عن المقاربة التي يعتمدها الرئيس برّي راهناً ما كتبه الاستاذ انطوان مسرّة: «ليس القانون تمريناً انشائياً، ولا وسيلة سياسية في استغلال رمزية القانون لإيهام الناس بالتغيير، ولا وسيلة لتبرئة الذمّة تجاه مؤسسات دولية ومراصد حقوق الانسان».

ثقافتان مختلفتان في القناعة والممارسة، ولا يمكن جمعهما في وطنٍ واحد، بل فقط في دولة مُصطنعة، فالوطن يُمثّل الثقافة الواحدة، وعندما يُترجم الى دولة جامعة لعدة ثقافات فيجب جمعهم بالدستور والقانون، فإن تم احترام هذه المرتكزات تتحوّل الدولة من مُصطنعة الى وطن متصالح مع فئات شعبه ومُعالج لتبايناتها.

منذ نشأة دولة لبنان سادت الثقافة اللبنانية المتمايزة في منطقة الشرق الاوسط، وتطبّعت الدولة اللبنانية بها بكامل مؤسساتها ومرافقها، وساعد على ذلك ارساليات كثيرة قادمة من المجتمع الغربي، ولكن عندما نشأت ايديولوجيات وعقائد متزمتة ومتطرّفة في بلدان ومجتمعات المنطقة بدأت التسلّل الى المجتمع اللبناني «السهل الخرق» فأصابت الثقافة اللبنانية بجروحٍ لم تندمل وشققت الشعب اللبناني الى فئاتٍ ثقافية، فبات هناك مجتمع متمسّك بوطن سبق الدولة، ومجتمعات أخرى تنتمي لاوطان اخرى لم تكتمل مشاريعها التوسّعية، ولن تكتمل.

ضُربت الثقافة اللبنانية، وتساقطت مرتكزاتها ومفاهيمها عند فئاتٍ منقلبة عليها، وتراجعت وتشوّهت عند فئاتٍ مبتعدة عنها، وتأثّرت سلباً عند الفئات الاكثر تمسّكاً بها. فأضحت الدولة اللبنانية مُصطنعة ومنفصلة عن الوطن الجامع، وراحت الفئة المستقوية بالسلاح وبالمشروع الايديولجي المنبثق من وطن آخر تعمل لمحو الثقافة اللبنانية المتجذّرة منذ آلاف السنين على جبال لبنان «الوطن» ووديانه وسهوله وتباعاً فرض واقع الدولة المُصطنعة الضامنة لمشروعهم الالغائي والتشويهي، فانقسم الشعب الى فئةٍ تعمل بعقيدتها لاجل دولةٍ جديدة، وفئة تتمسّك بوطنها الذي كان على أساسه انشاء الدولة.

الاحتمالات حالياً ثلاثة، إمّا العودة الى الدولة المُترجمة للوطن الاصلي، وامّا إنهاء لبنان الدولة والوطن، وإمّا الانقسام بين دولة مُصطنعة تتحكّم بقسم من اللبنانيين، ووطن حقيقي يُتابع مسيرة وطن الارز والابطال الذين لم يتوانوا يوماً عن الدفاع عن ثقافتهم.

(*) عضو تكتل «الجمهورية القوية»