IMLebanon

البلد المخطوف!

 

 

مفهوم السيادة غير قابل للتجزئة أو للتفكيك، بمعنى أنه لا يمكن لطرف لبناني أن يرفض الانتهاكات الإسرائيليّة اليوميّة للسيادة اللبنانيّة في البر والبحر والجو (وهي إدانة طبيعيّة ومطلوب التحرّك حيالها بما يتعدّى بيانات الشجب والاستنكار التي صارت شحيحة بدورها)، ومن ثم يتغاضى عنها، كي لا يُقال، يخرقها في موقع آخر.

 

منتهك السيادة هو من يتعدّى عليها، بالتعريف المفاهيمي البسيط، بمعزل عن هويته. إنه الطرف السياسي، سواءً أكان دولة أم غير دولة، الذي لا يتوانى عن عدم إقامة الاعتبار للسلطة المحليّة اللبنانيّة أو أجهزتها الرسميّة. إنّه الطرف الذي يكون بصورة مستمرة على أهبة الاستعداد لتحقيق مصالحه السياسيّة المباشرة بصرف النظر تماماً عن المصلحة الوطنيّة، وقلّما يكترث لها. لا بل يمكن القول ان إنتهاكه لها يصبّ في مصلحته بشكل أو بآخر.

 

الوقت الآن ليس للتدقيق في المصطلحات العلميّة المتعلقة بمفاهيم السيادة وضرورة بسطها على كامل الأراضي (أو التراب الوطني كما يسمّيه البعض)، فهذه مهمة متروكة لطلاب العلوم السياسيّة في الجامعات أثناء غوصهم في دراسة مرتكزات قيام الدولة وشروط بقائها وإستمرارها.

 

إنما الوقت قد حان لإعلاء الصوت حيال الانتهاكات التي تُمارس ضد السيادة سواءً من خلال طلعاتٍ عدوانيّة جويّة، أم من خلال صهاريج محروقاتٍ لم تستحوذ على الأذونات الرسميّة المطلوبة قبل إستيرادها، أسوةً بما هو سارٍ على الشركات التجاريّة العاديّة في معاملاتها مع الجهات الحكوميّة المختصة.

 

ولكن، هل يمكن بالفعل تبسيط المسألة لتقتصر على مسألة أذوناتٍ رسميّة من هذا الطرف المستورد للمحروقات أو ذاك، أم أنها أعمق من ذلك بكثير؟ هل لا يزال من الممكن فعلاً التغاضي عن كل الخطوات التي حصلت خلال السنوات، لا بل العقود المنصرمة، والتي صبّت مباشرة في خدمة المشاريع الموازية لمشروع الدولة؟ هل لا يزال مقبولاً الصمت عن كل التجاوزات التي حصلت وتحصل يوميّاً في القضايا المحليّة، والتي تُضرب فيها هيبة الدولة (أو ما تبقى منها) وآخرها ما تمثّل في التهديد المباشر للقضاء؟

 

إن مجرّد التفكير بإعادة تلزيم لبنان إلى محاور إقليميّة كانت هي المسؤولة أساساً عن تقهقره وتراجعه وسقوطه في الحضيض، يعني عمليّاً القضاء على صيغته التعدديّة المتنوعة التي كانت وما زالت تميّزه عن محيطه الذي تبقى الآحاديّة صفته الرئيسيّة الملازمة للعديد من المواقع والبلدان.

 

ثمّة إختلال كبير في موازين القوى المحليّة كرّسته الممارسات الملتوية لأطراف سياسيّة لم تسعَ سوى إلى تحقيق مصالحها الفئويّة، وفاقمته المتغيّرات الإقليميّة التي سجلت إنكفاء أطراف وازنة وفاعلة في المعادلات القائمة في المنطقة، فاختُطف القرار الوطني اللبناني المستقل ودخل لبنان في الدوامة الحاليّة التي أقلّ ما يُقال فيها إنّها كارثيّة، وسوف تقضي على لبنان القديم الذي كانت له ميزاته التفاضليّة (وكانت له عثراته الديموقراطيّة والإقتصاديّة والاجتماعيّة).

 

حالة الاستعصاء الاصلاحي التي عانى منها لبنان على مدى عقود مرشحة للاستمرار على ضوء موازين القوى كما سبقت الاشارة في ظل سطوة أطراف معيّنة على السلطة وعدم إستعدادها مطلقاً لإحداث التغيير السياسي المطلوب، لأنه بكل بساطة يتناقض مع أهدافها وأجنداتها المرتبطة بالخارج أولاً وأخيراً.

 

الخروج من المأزق دونه عقبات كبرى، ولكن يبقى شرف المحاولة لمن يرفع الصوت ويرفض الخضوع والالتحاق بما سيؤدّي إلى دمار صيغة لبنان السياسيّة بشكل نهائي وتام. الحريّات، التعدديّة، التنوّع، الانفتاح، العلاقات الخارجيّة وسواها من العناوين والشعارات معرّضة للاهتزاز والسقوط.

 

ولكن، مع كل ذلك، سيبقى لبنان.