اللازمة التي رافقت الخطاب المُمانع بفرعه السوري بين عامي 1990 و2005 تمثلّت في الهجوم المتواصل ضد سياسات الولايات المتحدة “الانقلابية” في لبنان والمنطقة، فيما كان يحظى هذا النظام بغضّ نظر أميركي حيال إمساكه بالقرار اللبناني وتواصل مفتوح معه.
يختلف الخطاب السياسي للمُمانعة عن ممارستها على أرض الواقع، فهي تقول الشيء وتمارس عكسه، وهذا لا يعني انها ستصبح حليفة للولايات المتحدة أو إسرائيل، إنما ضرورات التعبئة السياسية تجعلها تواصل الخطاب نفسه بمعزل عن التقاء المصلحة مع واشنطن وتل أبيب، وما حصل في الترسيم البحري قدّم الدليل الثابت على كيفية تَعامل الممانعة مع الملف الصراعي مع إسرائيل.
فلو كانت الممانعة وفية لقناعاتها برَمي إسرائيل في البحر لَما وافقت على الترسيم معها، ولَما تجاوبت مع السعي الأميركي الحثيث لإنجاز هذا الملف الذي كان بقي عالقاً إلى ما شاء الله، وقد دلّت الى انها تعتمد المبدئية شكلا والبراغماتية واقعا، وهذا تحديداً ما أكده السيد حسن نصرالله بقوله «بالنسبة للإسرائيلي كان موقف المقاومة مفاجئاً لهم، وأقول للعدو ان المقاومة تتصرّف بحكمة وحزم وعندما تقتضي المصالح الوطنية الكبرى تَجاوز قواعد الاشتباك فهي لن تتردّد بذلك».
والمقصود طبعاً بـ»المصالح الوطنية الكبرى» مصلحة محور الممانعة وليس أي شيء آخر، لأنه لو تعارضت مثلاً مصلحة لبنان مع مصلحة إيران لما تردّد «حزب الله» في تَبدية المصلحة الإيرانية، وعلى رغم ان مصلحته بالترسيم تكمن في مدّ منظومته السياسية بالأوكسيجين المالي تجنّباً لسقوط هيكل الدولة على رأسها، إلا ان قرار الموافقة على الترسيم هو إيراني بامتياز من منطلق ان طهران تمنح الحزب حرية الحركة والقرار في كل ما يتصل بالوضع اللبناني الداخلي، ولكن في الملفات الإقليمية لا يمكنه إلا العودة إليها، وقد تحدّث السيد نصرالله علناً عن زيارة سرية قام بها لإيران بعد اندلاع الثورة السورية والتقى فيها السيد علي خامنئي مُقترحاً عليه قتال الحزب إلى جانب النظام السوري. وبعد ان اقتنع المرشد بالفكرة خرج من لبنان إلى سوريا، وإذا كان بحاجة للإذن الإيراني لمؤازرة حليف، فهل يمكن ان يخطو خطوة واحدة في ملف نزاعي مع تل أبيب تعتبره طهران أحد أوراقها الأساسية؟ بالتأكيد كلا.
وطالما الشيء بالشيء يذكر، فعلى رغم ان الاتفاق النووي الذي كان لمصلحة إيران، واصلت الأخيرة نعت الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر، ما يعني ان هذا الفريق يعقّد الاتفاقات التي تتناسب مع مصلحته من دون ان يتخلى عن خطابه وأدبياته، وقد تجاوب مع الرغبة الأميركية في إنجاز الترسيم قبل الانتخابات النصفية لإهداء الإدارة ورقة تُوَظِّفها في انتخاباتها وتكون بمثابة تسليف مسبق لورقة النووي، خصوصا في ظل التوجُّس من ان يؤدي فوز بنيامين نتنياهو والحزب الجمهوري إلى الإطاحة بالترسيم الذي يشكل في موازاة المصلحة الإيرانية مع واشنطن مصلحة للحزب لاستخدام الصندوق النفطي كبديل عن الصندوقين الدولي والخليجي.
وفي سياق التوظيف السياسي نفسه حاول «حزب الله» تحوير الموقف الأميركي بالقول انّ واشنطن تريد الانهيار لتحرير لبنان من الحزب، وقد ارتكَز في ذلك على ما أعلنته مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، التي استندت إلى طرح معيّن من دون ان تتبنّاه إطلاقاً، قائلة انّ «هناك طروحات تقول إن انهيار لبنان سيُمكّن بطريقة ما إعادة بنائه من تحت الرماد، متحرّراً من اللعنة التي يمثّلها «حزب الله» له (…) ولكن شعب لبنان، وجيرانه الأردن وإسرائيل والشعب السوري، سيتحملون العبء الأكبر لانهيار الدولة. لذلك فإنّ جهودنا مركّزة على تفادي هذا السيناريو، والضغط على من يحكمون البلد لانتخاب رئيس للجمهورية وتسمية رئيس وزراء، ثم تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات لتعمل على بعض القرارات المهمة، والولايات المتحدة مستعدة للعمل مع الحكومة على تمكين لبنان، ولكن يجب أن تكون هناك حكومة كاملة الصلاحيات لتقوم بمهامها المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي».
ويتبيّن من خلال كلام الديبلوماسية ليف انّ واشنطن ضد انهيار لبنان، وتحدّثت عن سيناريو مؤكدة رفضها له، وما حاول ان يروِّجه «حزب الله» يندرج في إطار الشيطنة شكلاً والارتياح مضموناً للموقف الأميركي الذي أولويّته الوحيدة في لبنان الحفاظ على الاستقرار ولو كان هذا الاستقرار يتأمّن عن طريق الحزب ومنظومته الحاكمة، لا بل انّ الموقف الأميركي يخدم أهداف الحزب، وهو يدرك ذلك، لجهة الحفاظ على الستاتيكو اللبناني، لأنّ واشنطن لا تولي لبنان الأولوية ولا حل عندها لأزمته، ولا تريد ان تتفجّر أوضاعه التي سيكون لها انعكاسات سلبية على جيرانه.
ومن هذا المنطلق لا خوف على الاستقرار اللبناني الذي يشكّل تقاطعا، ولو لأسباب مختلفة، بين المجتمعين الغربي والعربي من جهة، وبين إيران و»حزب الله» من جهة أخرى، وبين قوى المعارضة من جهة ثالثة. وبالتالي، لا يوجد قرار بتفجير لبنان، والجيش اللبناني في ظلّ غطاء من هذا النوع قادر على منع أي انفلات يمكن ان يدفع باتجاه أحد القوى المتضررة، ما يعني انّ الاستقرار ثابت وغير قابل للسقوط، ومع ضرورة التمييز بين اهتزازات محتملة تبقى مضبوطة تحت السقف، وبين اهتزازات محسوبة لتسريع وتيرة التسوية الرئاسية.
أما الخلفية الكامنة وراء تحوير الحزب لموقف باربرا ليف فمردّه إلى أمرين: تعبئة بيئته بالمادة السياسية نفسها بأنه مُستهدف أميركياً لإبقاء هذه البيئة معبّأة وملتفة حوله، والأمر الثاني يتعلّق في خشيته الضمنية والفعلية من سيناريو من هذا النوع، لأنّ انهيار الاستقرار وسقوط الستاتيكو يُفقده الورقة اللبنانية ويدفعه إلى التراجع إلى داخل بيئته المذهبية.
فلا خوف إذاً على الاستقرار، ولكن الخوف الفعلي من إطالة أمد الشغور الرئاسي في ظل عجز مثلّث:
عجز المعارضة عن توحيد صفوفها خلف النائب ميشال معوض، ولا مؤشرات لغاية الآن انّ بإمكانها الوصول إلى عتبة النصف زائدا واحدا، وإذا لم تتمكّن من جمع 65 نائباً فإنها لن تنجح في إطلاق دينامية رئاسية تضع الفريق الآخر تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي بتحميله مسؤولية الفراغ، وفرض أمر واقع رئاسي والتقاط المبادرة الرئاسية التي تخوّلها قيادة المفاوضات مع هذا الفريق من موقع قوة الاستحقاق الرئاسي ولَبننته.
عجز الموالاة عن الاتفاق على مرشّح واحد في ظل رفض النائب جبران باسيل القاطع لمرشّح الثنائي الشيعي النائب السابق سليمان فرنجية، ولا مؤشرات حتى الآن إلى إمكانية توحيد هذا الفريق موقفه حول مرشّح واحد بسبب ان باسيل ما زال يراهن على فرصته الرئاسية، و»حزب الله» ليس في وارد الضغط على باسيل أو التفرُّد بخطوة رئاسية بمعزل عن حليفه الأساسي.
عجز الخارج عن دفع القوى السياسية إلى الاتفاق على رئيس للجمهورية، ولا مؤشرات لغاية اللحظة بأنّ الضغط الأميركي الذي مورِس في الترسيم سيمارس لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ولكل هذه الاعتبارات فإنّ الاستقرار ثابت والشغور الرئاسي طويل ما لم تنجح المعارضة أو الموالاة في خلط الأوراق الرئاسية، وقَلب الطاولة لن يتحقّق سوى مع حيازة أحد الفريقين لـ65 صوتاً، فيبدأ عندذاك العد العكسي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقبل حصول هذا التطور سيبقى الشغور مستمراً إلا في حالتين:
إفتعال «حزب الله» لأحداث مضبوطة يتسلّح بها ويتلطّى خلفها لفكّ أسر باسيل للرئاسة بأقل أضرار ممكنة.
إنتقال فريق نيابي وازِن من ضفة إلى أخرى فيحرِّك المياه الرئاسية الراكدة حتى اللحظة.