يلتقي معظم التوقّعات الشعبية والتحليلات السياسية، نتيجة للإنهيار التراكمي للعقد اللبناني وللمؤسسات الرسمية الراعية له، على حقيقة إقتراب الدولة اللبنانية من مشارف الموت، وتنهال المقالات والتصريحات يومياً لتؤكّد أنّ دولة المئة سنة من العمر قد أصبحت مأزومة كيانياً وتواجه خطر الزوال. هذه الخلاصات المصيرية لها مسبِّباتها الواقعية والعلمية والموضوعية المبنية على التعثّر الواضح في مسارات الحكم في لبنان. فبالرغم من تداول السلطة بين المتخاصمين، لاحق الفشل في هذه الإدارة نسبياً كافة الأطراف السياسية التي شاركت في الحكم، بالرغم من تنوّعها وتمايُز أساليبها، وكان آخرها النموذج القمعي والفرضي والبوليسي المرتبط بقوى الخارج والمُستقوي بالمشاريع التوسّعية الإقليمية.
هذه المقاربة السائدة وطنياً تُصلح إنْ نظرنا الى لبنان من منطلق المسارات الطبيعية للدول المُستقرّة، هويةً وإنتماءً وطنياً، وبالتالي إستقراراً إقتصادياً وإجتماعياً، ولكن مع وجود الدويلة داخل الدولة، كجسمٍ غريب يعتاش من مقدراتها، فالتقييم الموضوعي يجب أن يعتمد معايير مختلفة، بغض النظر عن نوع العقد الوطني والإتفاقات السياسية. لذلك، مهما انكشفت عورات النظام اللبناني التوافقي وتعرّت ثغراته وتهاوت أواصره وروابطه، ومهما إعتبر الجيل الناشئ بأنّ النظام الحالي لا يُعبّر عن طموحاته ولا يُمثّل تطلّعاته ولا يسمح له بتحقيق مستقبله، تبقى الحقيقة التي لا جدال فيها أنّ ثقافة هذا الجيل الشبابي الصاعد وطبيعة عيشه ورؤياه، لا تتوافق أبداً، لا بل تعاكس تماماً واقع وجود دويلة مع ذهنية متخلّفة وإيديولوجية منغلقة تمثّل فئة واحدة من اللبنانيين. وهذا التناقض الثابت لا إمكانية متاحة لتعديله أو لتهذيبه أو لقلبه، ممّا يُشكّل عائقاً فعلياً أمام إستمرارية الدويلة.
إنّ عدم تجانس الدويلة مع مفهوم الدولة التي يسعى اليها الشباب اللبناني المُتحضِّر يقضي بشكل كامل على آمال مُنظّريّ الدويلة وعقائديّيها والمسوّقين لها والمتفاخرين بقوّتها وعظمتها الوهمية المبنية على أسس غير صحيحة والمستندة الى القوة الغاشمة والظالمة والفاقدة شروط الإستمرارية الإنسانية، حيث تنطبق عليها نصيحة إيمانية “تذكّر أنك ستموت” حبّذا لو يأخذ بها قادة الدويلة ويستفيقون على حقيقة أن القوة لا تفيد إلا إذا كانت لصالح الوطن بأكمله، فكما قال روسو “لا يكون الأقوى قوياً بما يكفي ليكون هو السيد دائماً، ما لم يحوّل القوة الى حق، والطاعة الى واجب”.
موت الدويلة حتميّ لأنها لا تملك الإمكانية لتتحوّل الى دولة، فستنتهي كدويلة، أمّا الدولة فلن تموت إن تعاطت كدولة، وهذا ما على الشعب تحقيقه بنقل الواقع اللبناني من دولة المزرعة الى الدولة الحقيقية. الدويلة الى انحلال أمّا السؤال المُفيد فهو حول مستقبل الدولة بعد موت الدويلة، وحول النيّة لإعادة بنائها على أسس تمنع بقاءها معرّضة لغلبة الدويلة، فالسلطات التي حكمت البلاد سابقاً أعطت الفرص للدويلة وسهّلت لها السيطرة الكاملة على معظم مفاصلها، وأي عودة للمنطق الماضي قد يُعرّض الدولة مجدّداً لتكون رهينة دويلاتٍ جديدة أو حساباتٍ إقليمية متغيّرة. ففَنْ حكْم الدولة كما عرّفه الفيلسوف الفرنسي آندريه لالند “يعني كل ما يتصل بالدولة والحكم وما يتعلّق بالأمور الإقتصادية والقضايا الإجتماعية كالعدالة والإدارة أو بقية نشاطات الحياة المتحضّرة من مثل الفن والعلم والتعليم والدفاع عن الوطن”، فهذا يعني أن الدولة المُرتجاة ليست شبه الدولة التي تحافظ على مصالح ضعيفي النفوس الذين أبقوا بلادهم مُشرّعة للتدخّلات الخارجية ورهنوا أنفسهم كوكلاء لها، بل الدولة الحقيقية التي تربط إدارتها ومبادئها بالتعاليم الإيمانية الإنسانية والطابع المؤسساتي والمعايير الديمقراطية، وعملياً بمبدأ دولة الحق وسيادة القانون لا الإرادات البشرية التعسّفية، وباحترام حقوق الإنسان في الإختيار والمحاسبة وضمان عدم المسَ بهذه الحقوق من قبل أي جهة أكانت أشخاصاً أو جهاتٍ رسمية، وبالتمتّع بمعايير الطابع المؤسساتي الذي من أهمّ صفاته القابليّة للتكيّف مع الظروف والتأكيد على الإستقلالية عن الحسابات السياسية الخاصة. إنها معايير الدولة المطلوبة بخصائصها الممانعة لمشاريع الدويلات.
وفي الختام، أهداف الشباب اللبناني المتحضِّر المتمثّلة ببناء الدولة الحقيقية الحاضنة للمواطنية ولإحترام مبدأ الكفاءات والدور المسؤول والمحاسبة الدقيقة كفيلة بأن تُسقط الدويلة التي تدفع للعنف ولللاشرعية، ولذلك فالموت للدويلة هو قدر الشعب اللبناني ومساره الحتمي لبنائه الدولة، وهو المتاح.