Site icon IMLebanon

اللبنانيون غرباء في وطنهم!

 

أكثر ما يؤلم اللبنانيين اليوم شعورهم بالوحدة والغربة في وطنهم.

 

ليست هذه الغربة بجديدة. هي وليدة طبقة سياسية تسلطت عليهم وتوارثت ميثاقية مُتوهمة منذ إنشاء الوطن – الكيان. لكنها اليوم تتخذ معاني أعمق بسبب ما آلت إليها أوضاع اللبنانيين وأزماتهم التي تتوالد دوما بفعل نظام طائفي ومذهبي يحمي الفساد ويمنع قيام وطن، لا يريد اللبنانيون منه سوى العيش بكرامة من دون فضل لزعيم أو لحزب أو لسياسي.

 

بئس هذا الوطن – الكيان. بعد أشهر معدودة سيبلغ من العمر قرنا حفل بالأزمات كما بالحروب التي اعتاشت دوما على طائفيات ومذهبيات مقيتة فجّرت سلماً أهلياً هشّاً، ودفعت بالكيان نحو النزاعات الأهلية، المقنعة أحياناً والسافرة أحياناً أخرى.

 

إنها معضلة هذا الوطن في طائفية تستجر الخارجي بحجة الحماية في وجه أخ في المواطنة يستجلب خارجا آخر، في حروب أهلية متوالدة ولا تنتهي. المسلسل هو نفسه. يتكرر بوقاحة، وهو لا يختلف اليوم عن المشاهد التي صاحبت اللبناني منذ مئة عام وما قبل.

 

اليوم، ثار اللبنانيون على نظامهم. ملأوا الساحات التي ثملت بشعارات محقة هتفت طويلا لانتفاضة مقتت طبقة سياسية إحتقرتهم طويلا. ومهما قيل عن ثورة 17 تشرين الأول، فإنها وحدت اللبنانيين بفئاتهم المختلفة وطبقاتهم المتعددة. وعبرها، لقن اللبنانيون السلطة درسا بوحدتهم وسلميتهم ووعيهم، متقدمين في قلب الصعاب ومحققين أهدافا ما كانت مرجوة حتى أشهر خلت.

 

في المقابل، صمّت السلطة الآذان ولا تزال. هي تُمعن في انعزالها عن شعبها وناسها، تشرع من جديد في عملية تحاصصية حكومية ولا تكل عن استنساخ تناتش سلطوي في الوقت الذي يتضور فيه شعبها جوعا. بالنسبة إليها، لا أزمات معيشية وإجتماعية وإقتصادية، لا بطالة، لا مشكلة عملة، لا تضخم في الأسعار.. لا جوع في البلاد!

 

والأنكى عند بعض اللبنانيين عدم إعتبارهم من دروس الماضي. فالزعيم كان وسيبقى السيد لهم. هم ذهبوا إليه جحافل يوم الانتخابات لينتجوا سلطة اليوم، وسيتكرر المشهد برغم فشله وازدراء من في الحكم لهم. لكنه اللبناني الذي يغالب جموحه المذهبي على فقره ومرضه وعوز عائلته.

 

إلا أن بين ثنايا هذا المشهد المخزي، تسطع انتفاضة ثقبت ليل الظلمة. كلنا يعلم أن أهداف الانتفاضة بشمولها لن تتحقق قريبا. لكنه نضال تراكمي عبر الزمن أسس له وعي اللبنانيي المنعتقين عن ثوابت الآباء والأجداد، والثائرين على نظام فاشل عمره من عمر الكيان.

 

اليوم، يواجه اللبنانيون بوحدتهم، سلطة لا تكل عن محاولة تفريقهم شيعا ومذاهب لإدامة حكمها وهيمنتها الظالمة. وسيكون الصراع مفتوحا لأجيال مقبلة. وبعد أشهر، سيأتي من يحدثنا عن إحتفالات بمئوية تأسيس لبنان الكبير. وسيظل هذا الاحتفال، الظاهري، مستمرا لفترة طويلة من دون مقاربة معنى تأسيس هذا الوطن وسبب عدم اكتمال التجربة، في الوقت الذب سيعاني فيه الكيان الذي قام على إحتضان أقليات مختلفة في هذا الشرق، من الأزمة الأكبر في تاريخه.

 

لن يكون في مقدور اللبنانيين لفظ أزماتهم المتلاحقة من دون تدمير النظام الطائفي الذي قام لبنان عليه والذي يشكل منبع مآسيه. الكيان الذي نظّر المؤسسون لفرادته وتمايزه إحتقارا وفوقية على إخوانه، لن يحمي ذاته من دون مقاربة ثغرات التأسيس وأسباب الحروب الأهلية المختلفة، والولاءات الخارجية المتعددة منذ إنشائه، والنظام السياسي المتخلف الذي أدى باللبنانيين الى شأنهم اليوم.

 

في الأول من أيلول المقبل، ستُثبت نظرية المؤسسين عقمها وتأسيسها لظلامات إجتماعية وسياسية كانت من عوامل اندلاع الحريق الكبير العام 1975، والتي قد تتجدد في أية لحظة عبر جماعات أهلية متناحرة لم تتوحد يوما في سبيل وطنها.

 

لقد وفّرت انتفاضة 17 تشرين فرصة ذهبية للبنانيين للانتصار لمواطنيتهم ولتحديث نظامهم السياسي في شكل جذري، والتوجه، عبر تدرج مدروس، لاعتماد دولة مدنية يشعر اللبناني معها بالعدالة، وينعتق من غربته عن وطنه الذي سيكون جديرا باحتضان أبنائه والأحفاد بدلا من نزف الخارج.

 

حينها فقط، سيكتسب لبنان معناه بالفرادة، وعندها أيضا سيؤسس هذا الكيان لتاريخ ولادة جديد، لكن هذه المرة على أساس حر وديموقراطي يحمي تنوع وطن أردناه جميعا. وسيكون من شأن تلك العدالة أن تحمي هذا الكيان من نزاعات أهلية أخرى وحروب طائفية جديدة.

 

.. وحتى ذلك الحين، ستبقى الفجوة كبيرة بين اللبنانيين وحلمهم والتي ستختصر الهوة السحيقة بين الوطن.. والكيان!