من المبكر الحديث عن تحرّك الشارع اللبناني، ومن واقع الحال وصف ما يجري من أيام لبنانية بالحركة. التمييز بين الكلمتين يتضمن افتراض اصطفاف وانتظام وتبلور محددات أولية في «التحرك»، ويضمن للحركة عدم التعسف في إلباسها سريعاً، لبوس البرنامج والتحديد والتأطير، من التذمر الأول حتى الهتاف الأخير.
الأقرب أن الشارع اللبناني في حركة اليوم، هذا يعني أنه في حالة اختبار وتجريب وتلمس واستخلاص. يبدأ كل شيء في «الميدان»، وقليلاً ما تكون الخلاصات خارج ما تقدمه الفورية والمباشرة في الميدان ذاته.
لا يقلل واقع الشارع الحالي من شأنه ولا يتهمه، بل إن الحديث الواقعي ينصف الشارع هذا، فلا يضيف إليه «محمولات» المناضلين السابقين، ولا يثقله بالشعارية الثقيلة التي ينطق بها «الثوريون» السابقون واللاحقون. تأسيساً على ذلك، يبقى للمواكبة اليومية، وللمتابعة العيانية للحركة الاحتجاجية الصاخبة، أمر رصد تطورات الحركة رصداً عاماً يقف أمام «بنيتها» التي تولِّد يومياً أسماء وشعارات ومقاربات، والتي تستقبل تباعاً مساهمات أحزاب قديمة وأسماء شخصيات سياسية صارت أكثريتها متقادمة.
في مجال الرصد العام الذي يحاول كلاماً أولياً على الحركة الاحتجاجية الحالية، يظل الأجدى والأنضج، وصف الموجود بما ليس هو عليه الملموس، وليس بما يجب أن يكون عليه غير المحسوس، وفي السياق من المجدي أيضاً السجال مع بعض النظرات التي تحاول أن تصير نظريات لا مستند أرضياً لها ولا أفقاً سماوياً.
الحركة الحالية ليست بشارة الربيع اللبناني، أي الاسم المستعار الذي بات رديفاً لمعانٍ شتى، ما خلا ما يعنيه ذلك من انبثاق الجديد بعد سبات السكون الطويل. على وجه التحديد، ليست الحركة شبيهة بقريناتها العربية، أي ليست مطابقة لمنطلقاتها ولا لمآلاتها وإن اشتركت مع بداياتها بوسائل الاتصال، وببعض الشعارات التي يأتي في طليعتها شعار: الشعب يريد. لا شبه بين المجتمعات العربية والوضع اللبناني، لا في البنية ولا في السياسة ولا في المسارات، لذلك لا يجوز افتراض المطابقة ولو جاز بعض التشبيه.
الأمر الآخر الجدير بالذكر، أن الحركة الحالية ليست حركة شبابية، أي أنها ليست حركة عمرية، بل هي، مثل كل الحركات الشعبية، تتشكل من فئات عمرية شتى، يغلب عليها طابع العمر الشبابي، وهذا أمر مفهوم ولا يختص به الوضع اللبناني من دون غيره. وما يقتضي الانتباه إليه، هو أن «شباب» كل حركة اجتماعية يقاس بمدى جديدها وبدرجة تجديدها، وبمعنى ارتباطها بالمستقبل وانتسابها إليه، هذا يعني أن الأمر منوط «بالفكر» أكثر مما هو منوط بالعمر، إذ كيف يكون المرء «شيخاً» وهو ينتسب إلى حيوية الحركة وآمالها انتساباً كلياً، وكيف يكون الشاب شاباً عندما يستقي مرجعيته الفكرية وأهدافه المستقبلية من قرون غابرة؟!
وما يضع حداً للتعريفات العمرية، أن الحركة الاجتماعية في كل بلد حركة تراكم متّصل، وما ينبغي تأكيده هو عدم إقامة القطع بين المراحل، وتأكيد ضرورة التجاوز الذي لا علاقة له بـ «القطيعة المعرفية» التي يفترضها البعض أمراً قائماً. في هذا المقام، تأتي أحاديث أبناء المساهمات السابقين الذين تقاعدوا، والذين يدعون أقرانهم اليوم إلى التقاعد فقط… بحجة: دعوا الشباب يفعلون ما يريدون.
إلى ذلك، ينبغي الانتباه إلى أن ساحة نشاط الحركة الجديد ساحة مفتوحة، والدخول إليها لا يتم بإذن، ولا يستطيع أحد أن يضع شروط المساهمة أو يمتلك دفتر مواصفات لها، وكل ما يمكن قوله هنا أن توليد سمات غالبة للحركة الاجتماعية يظلّ دائماً ميدان صراع بين الأفكار والأقوال والأعمال، والصراع تحسم وجهته الغالبة الموازين في الشارع وعلى صعيد وطني عام. لذلك، نجد في ميدان الصراع الحالي، وفي التسابق على الإمساك بناصية الحركة الاحتجاجية، أجساماً حزبية قديمة، وشخصيات سياسية عتيقة، وهي إذ تدلي بدلوها فإنما تفعل ذلك بقصد استيعاب الحركة، وامتلاك ناصية قيادتها.
الصراع على ذلك مشروع كله، لأن كل طرف يدَّعي أنه يحمل ما هو أنسب وأفضل لأهداف الحركة الحالية، وعليه، سيكون على أبناء الحركة الجديدة أن يصدّوا رياح «الجذب» القديمة بما يمتلكون من جديد، وعليهم أن يكونوا واضحين جداً، حيال القديم الذي ما زال قديماً، وعلى قدم المساواة مع وضوحهم حيال النظام الذي لن يستطيع جديداً في أي ميدان. في الميدان صراع بين الماضي والحاضر، والماضي ليس نظاماً فقط.