إنّ هشاشة المنظومة السياسية والأمنية في لبنان تستدعي دقّة وحذراً في التّخاطب السياسي.. لأنّ مستوى المأزق الوطني كبير وتداعياته أكبر ونتائجه واضحة للجميع.. فلا مكان للاّعبين الصغار في لعبة الكبار.. والجميع مدرك هذه الحقيقة وهو في حالٍ من الإدّعاء والرّجاء في آن.. وحمى الله لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات.. أعرف أنّ هذا التّعبير مستهلك وفاقد للمعنى لكثرة ما استخدم في غير موقعه وغير مقاصده.. لكنه الآن حقيقة فلبنان مهدّد بأرضه وشعبه ومؤسّساته..
لا يجوز أن يُكتب أو يُقال إلاّ ما يساعد على تدارك الأخطار وإنقاذ لبنان.. لذلك وللأسف الشّديد لن أستطيع الحديث الآن إلى كلّ المكوّنات الوطنية اللبنانية كما تحدّثتُ يوم كتبتُ «كلّنا شيعة الآن».. وما كتبته عن أهمية مذكرة بكركي الوطنية والرّؤساء الموارنة.. أما الآن فالهواجس والرهانات ليست واحدة والكلّ مصاب بالكلّ.. أي أنّ كلّ فريق يعتبر الآخر مرضاً خطيراً وقد أصيب به ويسعى جاهداً للشفاء والتّخلص منه ولو بالإستئصال.. وهذا الأمر ليس بين الطوائف فقط بل وداخل الطوائف أيضاً.. والأفراد أيضاً يتعاملون في ما بينهم بشيء من محاولة الشفاء من بعضهم.. من الأصدقاء إلى الأخوة والرفاق والزملاء.. والذين أصبحوا جميعاً أمراضاً يريد أفرادنا الشفاء منها أو إستئصالها..
كي يكون الكلام مفيداً الآن لا بدّ من مواجهة المشاكل والأزمات وتعريفها وتحديدها وبكلّ دقة داخل كلّ جماعة وكلّ فرد.. وهنا يأتي فنّ الممكن في السياسة.. أي عمل ما هو ضروري الآن وليس ما هو مستطاع.. والممكن الوحيد والضروري الآن بالنسبة لي هو الحديث مع اللبنانيين السّنة.. بعد أن شهدتُ أسبوعين حافلين بالنشاط لماكينةٍ منظمة تعمل على الضغط الإعلامي والاخلاقي والسياسي والأمني وعلى مجمل اللبنانيّين السّنة.. بالحديث عن الإرهاب والبيئة الحاضنة وابتكارات الإمارات والمرافىء والإنشقاقات وندوات الأزمات وإعلام الغباء.. وشَهِدَتْ هذه العملية نشاطاً إستثنائياً وكأنه يراد للّبنانيّين السّنة الخروج من فكرة الدولة بعد عودتهم إليها على مدى 32 عاماً منذ العام 82 وحتى الآن..
أعزّائي اللبنانيّين السّنة.. الذين أدركوا بعد الإجتياح الإسرائيلي واحتلال بيروت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية أهمية الدولة وحملوا فكرتها وضرورتها.. وساروا على طريق جلجلتها وتعذّبوا من أجلها ولُسِعوا بسياط الهيمنة والإنتفاضات وحروب الرايات وسقوط الإتفاقات وحروب الإلغاء والتّحرير والرّهانات المجنونة والعدميّة التي عبثت بلبنان بين الإجتياح الإسرائيلي واتفاق الطائف عام 89.. كانت سنوات عجاف هُجّرت قيادات وترك رؤساء حكومات لبنان كالرئيس صائب سلام وتقي الدين الصلح.. وأُسقطت قامات من العلماء.. صبحي الصالح وأحمد عساف.. وخرجت طرابلس وعادت طرابلس جريحة محطّمة.. وكانت محاولات عظيمة لقادة كبار تمسّكوا بالدولة فكرةً وخياراً.. فاغتيل الرئيس رشيد كرامي بين أحضان الدولة.. وبعد الصلاة الوطنية الجامعة في الملعب البلدي اغتيل المفتي حسن خالد ساعياً إلى الدولة..
أعزّائي اللبنانيّين السّنة.. في مثل هذا اليوم وقبل 25 عاماً كنتم تعيشون فرحة صوابية خياركم بالدولة الوطنية الجامعة.. وأنتم تقرأون الأخبار عن وصول النواب في مدينة الطائف إلى مسودة نهائية لوثيقة الوفاق الوطني والتي أعلنت في 20 تشرين الأول 1989 من الطائف.. أي بعد يومين من الآن يكون اليوبيل الفضي للمسيرة القاسية للجمهورية اللبنانية الثانية.. كنتم الأكثر سعادة بهذا الإنجاز لأنّكم لم تكونوا جزءاً من النزاع الثلاثي المسلّح الذي تحكّم في البلاد خلال السنوات السبع بين 82 و89.. وكان معكم معظم اللبنانيين الذين يجدون الدولة خياراً وحيداً ولبنان وطناً نهائياً..
أعزّائي اللبنانيّين السّنة.. يعتقد الكثيرون منكم ومن عموم اللبنانيين بأنّ الطائف أعطاكم إمتيازات وسلطات أكثر مما تستحقون وهذا غير صحيح.. والحقيقة هي أنّ الإضافة التي حصلتم عليها هي تلك القيادة الكريمة التي استطاعت بعزيمتها وكرمها وإيمانها بلبنان أن ترفع عنكم مجتمعين آثار إتفاق القاهرة وسنواته الثلاث عشرة والتي تحمّلتم وزرها الوطني.. بصرف النظر عن المسبّب الحقيقي لذلك الإتفاق وتلك الإستضافة وما تسبّبت به وما نتج عنها من آثار كارثية على الشعب والأرض والمؤسسات.. كان رفيق الحريري بارعاً بدفع الإستحقاقات وحتى الظالمة منها وحمل أبناءكم مع أبناء الوطن إلى رحاب العالم الكبير طلاباً للعلم والحداثة لينشىء جيلاً من الكفاءات يحمل الوطن والمواطنين إلى أحضان الدولة المدنية الحديثة..
أعزّائي اللبنانيّين السّنة.. تعرفون السنوات الــ 25 الماضية أكثر مني.. بإعمارها وأنوارها وكهربائها وهواتفها ومطارها وأنفاقها وجسورها وسياحتها وازدهارها وإستثماراتها وزوّارها.. من أشقائها وأصدقائها.. بملوكها ورؤسائها.. ومهرجاناتها وفنونها وثقافتها.. وجامعاتها ومعاهدها.. وكتبها واعلامها.. وبأرقامها ونقاشاتها.. وابتزازاتها وخوّاتها وعنترياتها.. وحروبها وأهوالها.. وانقلاباتها ومحاكماتها وملاحقاتها.. واقصاءاتها وافتراءاتها وتعطيلها.. ومصادرات تمثيل مناطقها النيابية والحكومية.. وتوظيفاتها ومحسوبياتها وادوات مخابراتها.. إنّها قصة طويلة مع مسيرة بناء الدولة التي كانت تدق كلّ الأبواب والعقول والقلوب.. وتشقّ الطرقات.. وترعى القطاعات والمجتمعات.. وكَثُر الحديث فيها بالأرقام وانعدم التبصير والخرافات.. حتى جاء الإغتيال في 14 شباط 2005 إعتقاداً منهم بأنّ الإيمان بالدولة كان مسألة فردية عند رفيق الحريري وأنّكم أهل حرب ونزاع.. فكان الجواب إجماعكم على الدولة المدنية ومعكم كلّ المؤمنين بلبنان أولاً وأخيراً..
أعزّائي اللبنانيّين السّنة.. اليوم الذكرى الثانية لاغتيال ابن الدولة وسام الحسن.. وهو أحد آخر حلقات المودة الجامعة لفريق الراحل الكبير.. والذي يعزّ علينا فراقه ونستذكره في كلّ يوم.. وإنّنا نشدّ على أيدي أسرته وقريته بتوراتيج ومدينته طرابلس وأهله وأصدقائه ورفاقه وزملائه.. وللمفتي الشعار الذي تعرّض للتهديد بالاغتيال وغادر لبنان بعد أن أمّ صلاة الجنازة على العزيز وسام.. وبعد شهرين تقريباً الذكرى الأولى لاغتيال محمد شطح ابن طرابلس أيضاً والشاب محمد الشعار ابن بيروت.. ومع كلّ تلك الجراح العميقة بقي الخيار واحداً ودائماً.. وهو الدولة ثم الدولة.. لأنّ عدم قيام الدولة في مجتمعنا مرتبط بسوء أفرادنا وثقافتنا.. والدولة بريئة من فشلنا وفسادنا.. لأنّ الدولة هي أرفع ما إبتكرته البشرية من أفكار نبيلة..
العزيز سعد الحريري.. قد لا تكون تشرشل ولا آيزنهاور ولا ديغول ولا تاليران.. وقد لا تكون أسماء كثيرة في تاريخ السياسة وأهلها.. ولكنني كمواطن لبناني.. أؤمن بالدولة وشروطها وحتى بظلمها في بعض الأحيان.. أقدّر لك ما تحمّلته في السنوات العشر الماضية وما لا يستطيع تحمّله أي شاب في لبنان وغير لبنان.. منذ جريمة إغتيال والدك إلى ما عرفتَ وما لم تعرف حتى الآن وما تحملتَه من خطط وخيانات وابتزازات واغتيال سياسي وإنساني.. وبقيتَ متمسّكاً بخيارات والدك وبالدولة المدنية وبلبنان أولاً.. وأنت تعرف أثمان تلك الخيارات.. وأقلّها الإغتيال.. فغلّبْتَ خيار الدولة على كلّ الخيارات.. من نهر البارد إلى عكّار إلى التبانة وبعل محسن إلى عبرا وعرسال.. دون ان ننسى بيروت و7 أيار.. إلى اليد الممدودة من لاهاي.. ولستَ وحدكَ في مواجهتك مع التطرّف والارهاب والإفتراءات والعبث بالبيئة الوطنية للبنانيين السّنة ومحاولة إخراجهم من مسيرتهم الوطنية كبيئةٍ حاضنة للدولة المدنية العادلة وليس للإرهاب.. «وما الدولة إلاّ صبر ساعة»..