تقترب سوريا من المرحلة النهائية في معركة إخراج المجموعات الإرهابية من أراضيها. هزيمة الجنوب المدوية انعكست نفسياً وعملانياً على المجموعات المنتشرة في إدلب وفي مناطق الشمال الشرقي. وها هي أبرز الدول المعنية على الأرض، أي تركيا، باشرت مفاوضات جدية مع الحكومة السورية بواسطة روسيا وإيران لإنتاج تسوية جديدة تتجاوز معطيات المرحلة السابقة. يجري ذلك في الوقت الذي عاد فيه الانقسام بقوة إلى صفوف الأكراد بين فريق اكتوى من مرّ العلاقات مع الولايات المتحدة والقوى الخليجية والأوروبية، وبات يرى أن التسوية الآن مع النظام السوري تحفظ وتحافظ له على مواقع كثيرة، وبين مجموعات أخرى تعاني من البلبلة والارتباك، بعنادها وافتراضها أنه لا يزال بالإمكان إنضاج عملية انفصال الأكراد عن سوريا.
القوات الهجومية من الجيش النظامي وقوات الحلفاء من حزب الله ومجموعات الحرس الثوري وفصائل عراقية، ستنتقل تدريجاً إلى مناطق الشمال. سيكون هناك توزع غير سري بين كل المنطقة المحيطة بإدلب وعلى تخوم المناطق الصحراوية أو المناطق السكنية في الشمال الشرقي. وقد أعدت الخطط اللازمة، في انتظار قرار الرئيس بشار الأسد الذي لم يوقف مشاوراته مع روسيا وإيران بهذا الصدد، وهو بعث برسائل واضحة إلى الجانب التركي ومن خلفه إلى دول غربية، بأن القرار هو استعادة السيطرة على كل الأراضي السورية، وأن خيار التسوية السلمية هو المفضل، ولكن إذا تعذر، وأراد البعض «التشاطر» فسيكتشف حقيقة أنه متى قرر الجيش والحلفاء تحرير منطقة نجحوا في ذلك.
في هذه الأثناء، تدور معارك دبلوماسية على الهامش. الدول المحيطة بسوريا بادرت إلى وضع خطط لاستئناف التواصل مع الحكومة السورية، كما هو حال عواصم بعيدة، سواء في الجزيرة العربية أو في شمال أفريقيا.
ومع أن دمشق لا تغلق أبوابها بوجه أحد، إلا أن دفتر الشروط عند النظام السوري لا يتعلق بحسابات متصلة بإغراءات عملية إعادة الإعمار، بل بحسابات استراتيجية ناجمة عن قناعة الأسد بالتمسك بمساره السياسي الاستراتيجي، لكن مع تعديل مهم في مساره الاقتصادي الاستراتيجي، وسط مؤشرات قوية على نيته إقفال الأبواب التي فتحت خلال العقد السابق للأزمة أمام ليبرالية تبيّن أنها كانت سبباً في جانب من الأزمة الاقتصادية الداخلية، عدا عن كونها استغلت من قبل دول وجهات لأجل الدخول إلى قلب المجتمع السوري، وهي الدول والجهات التي تبين أنها لعبت دوراً في تسعير الأزمة.
الغريب في الأمر، أن دولاً مثل الأردن وتركيا وقطر، وحتى الإمارات العربية المتحدة، كما مصر وتونس وليبيا والجزائر، تدرس مصالحها براحة تامة، وتريد إعادة وصل ما انقطع مع دمشق. لكن الدولة الوحيدة التي تواجه إرباكاً مُذلاً، هي لبنان. فالحكومة التي يترأسها سعد الحريري مع حلفائه من القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وشخصيات قريبة من الغرب، لا يزالون يعتقدون بأنه لا يمكن تطبيع العلاقات اللبنانية ــــ السورية قبل حصول تطور على صعيد علاقات سوريا مع الغرب، وكذلك مع السعودية.
ما يعرفه هؤلاء، أن القوى ذات الوزن الشعبي على الأرض، لن تنتظر هؤلاء حتى تعيد بناء علاقات وثيقة مع سوريا. وستثبت المرحلة المقبلة أن تدخل جهات مثل حزب الله والتيار الوطني الحر والحزب السوري القومي الاجتماعي وتيار المرة، وحتى حركة أمل، سيساعد على رفع وتيرة عودة مئات الآلاف من النازحين السوريين إلى بلادهم. وسيصار إلى فرض واقع تواصل شعبي مع سوريا لا تقدر أي حكومة في لبنان على منع حصوله مهما مارست من ضغوط. حتى إن مؤسستي الجيش وقوى الأمن الداخلي ستتعبان كثيراً إن فكرت قيادتهما في عرقلة مثل هذا التطبيع.
لكن ماذا عن المساهمة اللبنانية في مشاريع إعادة إعمار سوريا؟
الانتهازية، وهي سمة أصحاب المصالح الكبرى، عادت لتطل برأسها من زاوية وجود قدرات لبنانية، على مستوى القطاع المصرفي والتجار ورجال الأعمال والمتعهدين والمقاولين على أنواعهم، وهؤلاء يبحثون عن طريقة للدخول إلى سوريا. وبعضهم بادر إلى إنشاء شركات في دول خارجية، بعضها معلوم وبعضها غير معلوم، بما في ذلك دول لا تشارك في العقوبات على سوريا، بغرض استغلال الأمر والتسلل إلى سوريا.
لكن الأكيد، بحسب مصادر سورية رفيعة المستوى، أن الحكومة السورية باشرت عملية تدقيق واسعة تشمل كل من يعرض خدماته، وهي قررت أنه لن يكون لكل الجهات المالية والاقتصادية والعقارية والصناعية والتجارية المحسوبة على قوى 14 آذار أي دور في سوريا، حتى إنه وصلت تنبيهات إلى بعض رجال الأعمال، محذرة من محاولة الالتفاف على هذا القرار.
وبرغم أن هذا القرار من شأنه إصابة قطاعات لبنانية بضرر كبير، إلا أن دمشق قررت، عن سابق إصرار، التخلي عن خدمات هذه الجهات، ولو اضطرت إلى دفع أكلاف إضافية مع شركات تأتي من أمكنة بعيدة في العالم. مع الإشارة هنا، إلى أن العقود الكبيرة التي تخصّ أعمال البنى التحتية في مجالات الطاقة والنفط والطرق والمنشآت الرسمية العامة، ستُنجزها شركات روسية وصينية وإيرانية وعراقية. وتدرس دمشق حالياً إمكانية اللجوء إلى مصادر لتوفير حاجاتها في قطاعي النقل والاتصالات من دول لا تشارك عادة ولا تتأثر بمنظومة العقوبات الأميركية، خصوصاً أن دمشق ليست في وارد تغيير سياساتها الخارجية، ولا سيما الملف المتعلق بالصراع مع إسرائيل ومواجهة مركز العقل التكفيري في السعودية.
هذا من جانب دمشق، لكن ماذا عن جانبنا؟
قواعد قوى 14 آذار ستكون الأكثر تضرراً من عناد قادتها في رفض عودة النازحين واستعادة العلاقات الرسمية العادية
الواضح أن صبيانية في سلوك القوى المؤسسة لفريق 14 آذار ستفرض مواجهة داخلية كبيرة. وسيكون مستقبل العلاقات اللبنانية ــــ السورية بنداً خلافياً حاداً قد يوازي بند الاستراتيجية الدفاعية. وإذا كان الرئيس ميشال عون، لم يقرر خوض المواجهة المباشرة الآن، فإن حساباته وتقديراته للموقف، ستدفعه إلى خطوات مغايرة في وقت ليس ببعيد. وهو انتظر الحريري أكثر من اللازم، وسيجد نفسه مع الوقت مضطراً إلى اتخاذ قرار بتعيين موفد رئاسي بصورة رسمية، مهما كانت انعكاسات القرار على بقية الشركاء في الحكم.
الجانب الآخر هو ترقب ردود فعل مجموعات كبيرة من اللبنانيين، المحسوبين طائفياً على القوى المعرقلة لبناء العلاقات الجيدة مع سوريا. وهؤلاء من أبرز المتضررين الآن من كثافة النزوح السوري ومن وقف الصادرات الزراعية والصناعية الخفيفة عبر سوريا. بالإضافة إلى أنه يوجد في لبنان شريط سكاني حدودي مع سوريا يمتد من شبعا جنوباً حتى عكار شمالاً، مروراً بالبقاع شرقاً، لا يمكنه رهن مستقبل حياته اليومية لدولة لا تهتم بأبسط حقوقه.
المنطق يقول أن يكون شعار اللبنانيين من الآن فصاعداً: نحن جزء من سوريا سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً، فهناك الاستقرار وهناك باب الازدهار وفرص العمل، وهناك العروبة الحقيقية!
من ملف : لبنان وسوريا: نهاية النأي بالنفس