Site icon IMLebanon

النظام اللبناني أي «نسبية» تناسبه؟

بقيت أمتارٌ قليلة حتى يكتمل الجزء الأول من الجسر الذي سيربط شبه جزيرة القرم بروسيا، جغرافياً. وبعد أن ضمّت روسيا القرم منذ أكثر من عام، سعت الحكومة الروسية، بخطىً حثيثة، إلى ربط شبه الجزيرة بجسر لتسهيل حركة 40 ألف سيارة في اليوم، ترافقه سكة حديد قادرة على حمل 14 مليون مسافر في السنة، ونقل 13 مليون طن من البضائع. ويبلغ طول الجسر والسكك الحديدية 19 كيلومتراً، وقد بُنيا على ارتفاع 35 متراً. ونشر القائمون على المشروع، شريطاً مصوراً يوضح المرحلة الحالية التي وصل إليها، وآخر يبيّن المراحل المستقبلية منه. («روسيا اليوم»)

في غضون أيام قليلة، أعاد بعضٌ من قادة القوى المُشكِّلة لما بات يُعرف تداولاً بـ «الطبقة السياسية» في لبنان، مسألةَ قانون الانتخابات البرلمانية إلى الواجهة. الجامع بين الطروحات كان تشديدُ كلٍ منها على ضرورة اعتماد قانون انتخابات قائم على أساس النسبية، كأحد مداخل حل أزمات النظام.

وقد بدأت السبحة مع إشارات العماد ميشال عون في هذا الاتجاه قبل شهرٍ وبضعة أيام على هامش «جلسة الحوار» بين أقطاب السلطة، قبل أن يكرّر الأمرَ في مناسبات لاحقة، حيث أعطى المسألة بعداً تمثيلياً، لكن من زاوية «منحِ كل طائفة حقّها» وإنصاف الأقليات الطائفية داخل كل من الدوائر الانتخابية الصغرى (15 دائرة).

تلا ذلك كلام الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي اعتبر أن النسبية مدخلٌ لتمثيل فئات من خارج نادي القوى التقليدية، وعاملٌ مساعد على نزع فتيل الأزمات التي تُعبّرُ عنها اليوم في الشارع مجموعاتٌ مهمّشة (بالمعنى السياسي) ومحتجّة على فساد النظام الوافر. وقد طرح نصر الله مسألة القانون النسبي بعموميّتها، أي من دون تحديد حجم الدوائر ولا تبيان تصورٍ مفصل حولها، حتى لا يثير الخلاف حولها على الأرجح.

ثم جاء حديث رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل يومين في الأمر ليحسم نيّته خوض غمار معركة قانون الانتخابات بإحدى الصيغ التي لا تغفل النسبية ولا تؤكّد تبنيها كاملةً. وقد أشار في هذا السياق إلى مشروع القانون الذي كان قد تقدّم به مُزاوجاً بين النظامين الأكثري والنسبي، وهو ما سبق أن رفضه عون في معرض طرحه آنف الذكر.

ليس النقاش في قانون الانتخابات وليد «الحراك» القائم في الشارع اليوم. إذ إن عمرَه من عمر الخروج السوري من لبنان ورفع الوصاية عن مؤسسات كانت تحظى برعاية إقليمية مُشتركة، وتستثني أبرز القوى التمثيلية في «المجتمع المسيحي» من مكوناتها. منذ ذلك الحين، أي العام 2005، واللبنانيون يلعبون لعبة الأرقام في الشارع، تعويضاً منهم عن ضعف الثقة بآليات الانتخاب أو نتائجه أو إدارة الدولة بعد هذه النتائج، أو ما سبق ذكره مجتمعاً.

الأكيد أن أحد أبرز أسباب استمرار «الحراك» يعود إلى العطب التمثيلي في الدولة. إذ لا يمكن الحديث عن «إصلاح» النظام اللبناني الذي تَرفع لافتاتِه احتجاجاتُ اليوم من دون النقاش في آلياته الانتخابية. أولاً، لأن هشاشة التمثيل تسمح باستمرار الاعتراض على السلطة من خارج مؤسساتها، وتجعلُ من الشارع ملجأ طبيعياً لكل من لا يرى نفسه طرفاً في عقد اجتماعي يُشرعِن إجحافه وإلحاقه بأصحاب رؤوس الأموال أو النفوذ (وغالباً الإثنين معاً). وثانياً، لأن مبدأ المحاسبة الذي تدعو إليه الاحتجاجات لا يستوي مع «استيلاء» أصحاب النفوذ على أجهزة الرقابة عبر التعيينات التي تنتجها، بشكل غير مباشر، عمليات الانتخاب المُشوّهة. وثالثاً، لأن السبيل الوحيد لكسر دائرة العلاقة الزبائنية بين المواطن و»الزعيم»، أو لتذويبها تدريجياً، غير ممكن من دون خلق ثغرة في النظام تسمحُ بتسرّب قوى بديلة إليه، وتدفع القوى المُهيمنة فيه إلى تقديم أفضل ما لديها (على مستوى الأفراد والبرامج)، تعويضاً عن غياب القانون الانتخابي الذي لطالما ضمن نجاح مرشحيها بالكامل حتى قبل إجراء الانتخابات.

اليوم، يعود النقاش في قانون الانتخابات على أساس النسبية بعد إطلاقه من جانب قادة أحزاب وقفت على الحدود بين السلطة والمعارضة خلال السنوات العشر الأخيرة، أي منذ تشكّل قوى 8 و14 آذار، وتنقّلت بين ضفتي الحكومة والاعتراض عليها، مع الاحتفاظ أساساً بدورٍ معطّلٍ داخلها.

وقد خبرت هذه القوى (8 آذار + العماد عون) معنى النقض داخل الحكومة من دون القدرة على اتخاذ القرار، بمثل ما خبرت رئاسة الحكومة وفريقها الحاجة إلى تجاوز «الفيتو» للتمكن من أداء مهامها. علماً أن آليات اتخاذ القرار داخل مجلس الوزراء تعكس عطباً آخر في النظام اللبناني، القائم على نمـــوذج توافقي consociational يُفترض أن يبيـــح التعطـــيل في القرارات الكــبرى (لا الصغرى كـــما في الحـــالة اللبنانية)، كــما يُعرّف عنه أبرز دعاته آرند ليبهاردت.

العجز عن الوصول إلى الحكم في ظل القانون الراهن الذي يعيد إنتاج الأوزان نفسها، هو أبرز أسباب رفع هذه القوى شعار النسبية لقانون الانتخابات النيابية. والسبب ذاته، معكوساً، يشرح تحسس القوى الأخرى («14 آذار» سابقاً) من الطرح، حيث أن معظمها ذات أحجام منتفخة تزيد عن حجمها التمثيلي الحقيقي (ربما باستثناء «القوات اللبنانية»).

إلا أن طرقَ باب النــقاش في المسألة مفيدٌ بحد ذاته. فهو فرصة يُفترض بالحراك أن يتلقفها ليرفع من منسوب التسييس في خطابه الداعي إلى إصلاح النظام اللبناني المتداعي.

أما عن شكل النسبية الذي يسمح حقيقةً بفتح ثغرة في النظام، فهو ذاك القائم على دوائر كبرى (محافظات) أو على أساس لبنان دائرة واحدة. إذ إنه الوحيد الذي يؤمّن أكبر تمثيل للناخبين ـ كمواطنين أفراد ـ ويُراعي في صيغته الأولى (الدوائر الكبرى) قدراً معتبراً من التمثيل الجماعاتي (الطائفي)، تحديداً لتضمنه هوامش تسمح بذلك (توزيع المقاعد، الصوت التفضيلي…).

وأما قوة منطقه فمستمدةٌ من دستور الطائف نفسه، الذي أوصى باعتماد النسبية في إطار نصه على خطة لا أفق زمنياً لها لإلغاء الطائفية السياسية، علماً أن الأخيرة هي القضية المركزية التي يبدو تناولها اليوم، للأسف، خارجاً عن سياق أحداث الإقليم.

النسبية وفق الدائرة الموســـعة هي أولى الخطــــوات في مسارٍ إصلاحي جذري للنــظام يُفترض أن يكون الحــــراك طرفاً في نقــــاشه، حتى لا تكون الصيغة المُعتمدة منها شكلاً آخـــر من أشكــال التمديد لأركانه، إنما بتعديلٍ في المقـــاسات.